الى الاعلى
  • النظر إلى وجه العالم عبادة " الرسول الأعظم (ص) "

الاتجاهات المتعددة في بناء وهندسة المنهاج(2)


بسم الله الرحمن الرحيم

الاتجاهات المتعددة في بناء وهندسة المنهاج(2)

 

إعداد: الشيخ د.عباس كنعان

 

 لقد ذكرنا في المقالة السابقة[1] بأن هناك اتجاهات متعددة في تكوين وبناء المنهاج وهندسته، إذ يقتضى الأمر في مجال التصميم والهندسة، أو حين تحليل المنهاج في سبيل عملية تطويره، من أن يتم تحديد هذا الاتجاه أو ذاك، حيث أوردنا أربعة اتجاهات، وهي على النحو الآتي:

-الاتجاه الذي يُركز على هوية المتربي وفق تخصص ما.

  • الاتجاه الذي يُركّز على النظرية التربوية.

  • الاتجاه الذي يجعل المنهاج يستند إلى مواصفات المهن أو المهمة العملية.

  • الاتجاه الذي يجعل المنهاج كنظام مفتوح.

وقد بيَّنا وشرحنا كل اتجاه من هذه الاتجاهات، وفي هذه المقالة نستكمال باقي الاتجاهات وفقًا للآتي:

 

أ- الاتجاه الذي يجعل المنهاج يتمركز حول إحدى الساحات التربوية:

 

      لقد تطوّرت الفلسفة التربوية عبر الزمن، وتكاملت النظرة إلى الإنسان بجوانبه المتعددة، فالتربية بمفهومها الحديث شاملة لكل جوانب الشخصية والساحات التربوية التي تُعنى بحياته، وبمدى تكامل تلك الفلسفة تتكامل العملية التربوية التي ترفع من مكانة الإنسان أو تهبطه إلى الأسفل، وقد تأخذ عملية إعداد المنهاج منحى خاص في التركيز على إحدى الساحات التربوية الخاصة، ويهمل باقي الساحات، إما لقصور في التصور والتخطيط، وإما لخلل في التصميم، حيث يرتكز -بناءً على هذا الاتجاه- على التربية التقنية أو الصناعية للمتربي مثلاً، وتأهيله لجعله شخصًا منتجًا، ومتفاعلاً مع الصناعات التقنية الحديثة، وما تنتجه، وما يحيط بها من أبحاث وتطور، وفاعلاً في عالمها، وهو وإن كان أمراً هامًا وحيوي على المستوى الصناعي والتقني، إلا أنّ ذلك لا يكفي، بالتربية بما أنها عملية شاملة، فلا بد وأن تأتي المناهج التربوية متلائمة مع ذلك.

 

 إلا أن يُقال أنّ المنهاج التربوي المـُعد قد يختص بمؤسسة محدّدة من المؤسسات التربوية في المجتمع- وقد يكون ذلك نتيجةً لطبيعة وهوية هذه المؤسسة، أو بحكم الظروف الخاصة بها- وهو أمر جيد لكن يستلزم من المنظرين على المستوى التربوي والوطني العام، والذين ينظرون إلى كل تلك المؤسسات، ويقومون بالاشراف على عملية التوجيه التربوي والتخطيط الاستراتيجي الوطني العام أن يعملوا على إيجاد التكامل بين تلك المؤسسات، وأن يوازوا بين تلك الساحات والمجالات التربوية التي تستهدف المتربي الواحد لكي تأتي متكاملة فيما بينها.

 

ب- الاتجاه الذي يجعل المنهاج يتمركز حول البعد الاجتماعي والنفسي:

 

خطت عملية تصميم المناهج التربوية وهندستها وإعدادها خطوات متقدمة منذ نشأتها، لكن لم تخرج عن إطار الفلسفة والفكر التربوي، الذي عادة ما كان ينظر إلى الواقع المـُعاش ويلحظ احتياجاته، ومدى تقدمه، وفي أي من النواحي يحتاج إلى إلى معالجات، ففي مرحلة من مراحل تطور الفلسفة والفكر التربوي انحصرت الاتجاهات التربوية بمعالجة وصناعة الإنسان الاجتماعي، إي التركيز على تربية إنسان اجتماعي، متفاعل ومنسجم نفسيًا، وقد انعكس ذلك على المكونات الداخلية للمنهج، فأُشبع المحتوى التربوي بالموضوعات والمواد التي تصقل شخصية ومهارات المتربي بما يتلاءم مع الواقع الاجتماعي، من جعله فردًا متفاعلًا وفاعلًا  في المحيط، ولديه الإمكانيات النفسية والاجتماعية اللازمة لجعله قادرًا على التكيف والتأقلم مع الظروف الاجتماعية المحيطة.

  فبدت المناهج التربوية أقرب إلى الواقع العملي، بغض النظر عن البعد الفلسفي والفكري المتعالي، وهذا ما بدى جليًا عند تقييم الناتج التربوي لتلك المناهج، حيث طُرحت الأسئلة التقيميّة المحوريّة على الشكل التالي: إلى أي مدى كان مستوى المنهاج قادرًا على جعل المتربي -بعد مشاركته لعدة سنوات في تطبيقاته- فردًا اجتماعيًا فاعلاً ومتفاعلاً مع المستجدات الاجتماعية المتغيّرة والمتطوّرة؟ وإلى أي مدى نتج عن تلك العمليات التربوية فردًا قادرًا على التعامل مع الأمور الحياتية الاجتماعية اليومية؟ ...إلخ.

ج- الاتجاه الذي يجعل المنهاج يتمركز حول اهتمامات واحتياجات المتربين:

   هذا الاتجاه في إعداد وبناء وتصميم المنهاج يأخذ اهتمامات واحتياجات المتربين على نحو الانطلاقي لتصميم المحتوى، ووضع الأنشطة، وتحديد البرمجة الزمنية، واختيار الوسائل والأساليب التربوية التي تساهم في إيصال الأهداف التربوية إلى المتربين، وغيرها من العناصر المكوّنة للمنهج، علمًا أن الأخذ بعين الاعتبار احتياجات المتربين وخصائصهم النفسية والاجتماعية والعقلية والروحية والوجدانية، والعناية والاهتمام اللازم بها-كونهم هم المستهدفون من العملية التربوية- أمرًا لا يمكن تجاوزه، لكن دون جعله مصدرًا وحيدًا في ذلك، فالرؤية الفلسفية للتربية، والواقع الاجتماعي المستجد، والمتغيرات الظرفية للبيئة المحيطة، أيضًا عوامل لا بد من أن تكون مؤثرة في إعداد وتصميم المنهاج التربوي.

وقد نتج عن هذا المنحى مناهج ترزح تحت وطأة احتياجات المتربين والظروف الخاصة التي تحيط بهم، فتم تعزيز تفريد التعليم، والتعليم الخاص، والتعليم المبرمج، والتعليم الذاتي، وغيرها من المجالات التعليمية والتربوية التي تجعل احتياجات ورغبات المتربين لها الأولوية والحاكمية على مجمل عملية إعداد وتصميم المناهج التربوية، وهذا المنحى هو استجابةً للنزعة الإنسانية التي انطلقت في القرن الرابع عشر وأعادت تعزيز نفسها خلال خمسينيات القرن الماضي، وكان روادها روجيرز، وماسلو، وكليباترك وغيرهم[2] من الذين أكدوا على شعور المتربي واحتياجاته، النفسيّة، والروحيّة، والمعرفيّة، والحركيّة،..إلخ.

 

د- الاتجاه الذي يجعل المنهاج يتمركز حول البعد العملي الواقعي:

  تلبية للحاجات العملية والوقائع المعيشية لحياة الإنسان، وسعيًا لإشباعها على مستوى الوطني؛ سادت اتجاهات تربوية أثرت على صياغة المنهاج وبنائه، وتصميمه، وتحديد مفرداته، ومحتواه التربوي، حيث تجلّى ذلك في مقاربة وتحديد الأهداف التربوية في المنهاج، والتي جاءت متماشية مع المهارات الحياتية للفرد على مستوى اليومي والواقعي، فأُدمجت في المنهاج بكل حيثياته، ومفرداته، وشكّلت منطلقًا للكثير من عناصره، حيث كان ذلك في سبيل معالجة المشكلات الفردية على صعيد تلك المهارات(الحياتية)، فارتقت بمهارات المتربي وقدراته الحياتية، وعززت البعد المعرفي والاتجاهي والسلوكي الخاص بذلك، إلا أن البعد العقائدي والفكري والفلسفي للوجود والحياة لم يكن بنفس الاهتمام والعناية، إلا بقدر ما يرتبط بتلك المهارات والقدرات.

لقد ساهم في تعزيز هذا الاتجاه الفلسفة البراغماتية، والنفعية العملية، حيث أكدت على ضرورة ربط أي من المكتسبات العلمية والتربوية بالمنفعة العملية والحياتية، بغض النظر عن المقاربة القيمية والأخلاقيّة لهذا الموقف أو ذاك، بل أنّ القيم تتجلى بمدى ما تحتوي على المنفعة والفائدة العملية المحصلّة.

 

هـ- الاتجاه الذي يجعل المنهاج التربوي ذات منحى تكاملي وشامل:

 

  بنظرة فاحصة ومُدقِّقَة، وبخلفية تدرك مفهوم التربية بعناصره المتعددة، يتبيّن لنا مما تقدم من هذه الاتجاهات أن أخذ هذا الاتجاه أو ذاك بشكلٍ أحادي الجانب لا يساعد على بناء وتربية إنسان تربية شاملة ومتكاملة، ترتقي به بكل الأبعاد والساحات إلى مستويات متقدمة وسامية، وتمهد للتشكل والتسامي المستمرين لهوية المتربين، وتعزز من محورية العلاقة مع الله تعالى، في الوقت التي لا تغفل عن بقية العلاقات الأخرى، كعلاقة المتربي مع نفسه، وعلاقته مع الآخر، فضلاً عن علاقته مع الكون والطبيعة، وفي الوقت التي تلحظ فيه البعد الاجتماعي، والظروف المستجدة والمتغيرة والمتطورة على هذا الصعيد، وتأخذ بعين الاعتبار البعد النفسي للمتربي وحاجاته وما يختلج فيه من أحاسيس ومشاعر، وعواطف ورغبات وميول، واتجاهات، بالاضافة إلى ملاحظته النظريات التربوية وما يستجد على هذا الصعيد من نتائج تقدمه الدراسات والأبحاث العلمية المتخصصة، كما أنه يأخذ بعين الاعتبار هوية المتربي وفق المجالات التربوية المتعددة، فضلاً عمّا يعنى به، ويتجلّى ذلك في المحتوى التربوي الذي يتضمنه المنهاج، فتشبّع المضامين التربوية بالأبعاد المتعددة والمجالات والساحات المختلفة، وتراعى المعارف والمهارات ذات الصلة بالمهن المنتجة، حيث يتم ذلك وفق نظام متكامل الفعالية والترابط، من غير أن يتم إغفال اهتمامات واحتياجات المتربين والبعد العملي الواقعي، في اتجاه متكاملٍ وشاملٍ بتكامل وشمول الرؤية التربوية التي يرتكز عليها.

 

   إنّ هذا الاتجاه -في إعداد المناهج وتصميمها وهندستها- هو الاتجاه الأكثر ملاءمةً مع التربية وفق المفهوم والنظرة الإسلامية التأصيلية، حيث يمكن ساعتئذٍ جعل تلك التربية -وفقًا لهذه العمليات المتكاملة التي تنتج عن هذا لمنهج- تربي إنسانًا سويًا متكامل الأبعاد، مع الأخذ بعين الاعتبار أن التخصص الذي يسود بعض المؤسسات التربوية لا يضر بهذا الاتجاه، طالما أنّ هناك تكامل وتناسق وانسجام مع باقي المؤسسات التربوية الأخرى، حيث يلزم ذلك قيام الجهات العليا المعنية بعملية الإشراف العام في الوطن الواحد(بالحد الأدنى) من تنسيق هذه الجهود، ورسم مخططات متكاملة لهذه المؤسسات، لكي تأتي النتائج التربوية على المستوى العام ناتجًا صحيحًا.

   وإذا كانت الحياة الطيبة بناءً على ما جاء في القرآن الكريمة: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[3]، حيث تبيّن بأن الحياة الطيبة هي أثر يعيشه الإنسان نتيجة الإيمان والعمل الصالح، وهي أحد تجليات الغاية النهائية للإنسان أي القرب من الله تعالى، وهذه الحياة الطيبة تمتاز بثلاثة أمور:

  • الأول: أنها عامة لا تختص ببعد من أبعاد حياة الإنسان، وإنما تشمل الحياة الطيبة الأبعاد التالية: الاعتقادية، العبادية، الأخلاقية، الحياتية-الجسدية، الاجتماعية، السياسية، الاقتصادية، المهنية، العلمية، التقنية، الفنية، والجمالية.

  • الثاني: أن الحياة الطيبة لها مراتب متعددة، تبدأ من المرتبة الدنيا وكلما نال الإنسان مرتبة منها استطاع بالسعي والحركة أن ينال مرتبة أخرى أسمى وأعلى، على طريق تحقيق باقي المراتب الأخرى.

  • الثالث: أنه بإمكان كل أفراد البشر تحقيق المرتبة الدنيا من الحياة الطيبة، فنيل الحياة الطيبة بهذا المستوى لا يختص بالإنسان المتديّن ، وبناءً عليه، يمكن دعوة جميع أفراد المجتمع للسعي إلى تحقيق الحياة الطيبة .

 

   وبناءً عليه؛ فالحياة الطيبة هي الوضعية المنشودة لحياة البشر في الأبعاد والدرجات كافة. وهي حصيلة السعي الواعي والاختياري للإنسان في التشكل والتسامي في هذه الحياة الدنيا، بإضفاء الصبغة الإلهية عليها.

وهي حصيلة التفاعل المستمر في خط علاقة الإنسان كمخلوق واعٍ مختار من جهة مع: الله، نفسه ، الكون والطبيعة، وأفراد المجتمع الآخرين.

 

   وهذه الوضعية حيوية ومرنة، بمعنى أنها قابلة للإدراك والتغيير من قبل أفراد الإنسان في طريق التشكل والتحول المستمرين لهوية الفرد، بنحو يؤدي إلى تحسين مستمر لموقعيات ووضعيات جديدة.

  كما نشير إلى أن الهويّة والحياة الطيبة يؤكدان على البعد الاجتماعي للتربية، وذلك لأنه تحصّل عند تحديد المباني الإنسانية والاجتماعية والقيمية أن الهوية الإنسانية لها بعدين، فردي واجتماعي، وأن الحياة الطيبة تشمل البعد الفردي والاجتماعي، فالتشكل والتسامي للهوية يطال البعد الاجتماعي أيضًا، والعيش في مراتب الحياة الطيبة يشمل الحياة الاجتماعية، وبالتالي فإنّ التربية عملية تحصل داخل مجتمع معين، وهذا يقتضي توفير المنهاج التربوي المتكامل والشامل، الذي يعمل على نشر القيم الاجتماعية للنظام المعياري الإسلامي، وتهيئة الأرضية الضرورية لهداية أفراد المجتمع من خلال المؤسسات الاجتماعية المطلوبة؛ من أجل تشكيل المجتمع الصالح وتقدمه المستمر، وهذا ما نقصده بجعل المنهاج التربوي ذات منحى تكاملي وشامل.

 

 

كلمات مفتاحية

بناء المنهج، هندسة المنهج، تحليل المنهج، تطوير المنهج، تصميم المنهج، اتجاهات المنهج، المنهج واحتياجات التربوية، البعد الاجتماعي والنفسي لمنهج، الساحات التربوية، الأولوية التربوية، البعد العملي الواقعي للمنهج، الوقائع المعيشية لحياة الإنسان، ما يؤثر على المنهج، المهارات الحياتية في المنهج، المنحى التكاملي للمنهج،  المنحى الشامل للمنهج، التطورات الحديثة والمنهج،  التأصيل الإسلامي.

 


[1] - المقالة بعنوان: الاتجاهات المتعددة في تصميم وهندسة وبناء المنهاج(1)، إعداد: عباس كنعان، مدير مديرية تطوير المناهج في مركز الأبحاث والدراسات التربوية ونشرت بتاريخ 21/10/2023، على موقع مركز الأبحاث والدراسات التربوية:

[2] - تاريخ التربية في الشرق والغرب، محمد منير موسى، م.س، ص 296 وما بعدها.

[3] -القرآن الكريم، سورة النحل: الآية 97.

أضيف بتاريخ :2023/12/23 - آخر تحديث : 2023/12/23 - عدد قراءات المقال : 350