الى الاعلى
  • النظر إلى وجه العالم عبادة " الرسول الأعظم (ص) "

الاتجاهات المتعددة في تصميم وهندسة وبناء المنهاج


الاتجاهات المتعددة في تصميم وهندسة وبناء المنهاج(1)

 

إعداد: د. عباس كنعان

لا شك أنَّ عملية بناء المنهاج أو المنهج التربوي والتعليمي[1] ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالمخزون المعرفي والعلمي الذي ترتكز عليه هذه العملية، وبمدى خبرة وقدرة القيمين على هذه العملية  المتداخلة والشائكة، فضلًا عن أنّ المنحى الذي تتخذه يختلف باختلاف الوجهة العامة التي يسلكها هؤلاء القيّمون، بدءًا بمرحلة التخطيط، مرورًا بمرحلة التصميم والهندسة البنائية للمنهج، وتنسيق مكوناته الداخلية بما يتلاءم مع البيئة المحيطة، إلى مرحلة تطبيق هذا المنهاج وفق المرسوم له وضمن بيئة ومناخ تربوي متداخل العناصر ومتفاعل، ووصولًا إلى مرحلة تطوير المنهاج بعد إجراء العمليات التقيمية الدقيقة والمنظمة له.

  

     وقد تعدّدت مناحي تكوين وبناء المنهاج وهندسته، بحيث أصبح من اللازم تحديد مبررات الذهاب بهذا المنحى أو ذاك، بناءً على معطيات علمية وواقعية، علمًا أن هذه الهندسة الخاصة ببناء المنهاج وتصميمه عملية دقيقة، تحتاج إلى تنظيم عالي الفعالية، ومدروس بدقة متناهية، فإنّ كل خطوة من خطوات هذه العملية الهندسية لها انعكاسات كبيرة، ومتعددة على المسار العملي للمنهج، بحيث يؤثر سلبًا أو إيجابًا في العملية التربوية، فكما أن دراسة هندسة البناء تستلزم تحديد دقيق لمجموعة من العناصر، من الأقيسة الدقيقة للبناء، وتحديد مدى ملاءمة التربة وصلاحيتها للبناء، إلى تحديد الزمن الذي سيستغرقه بناء كل جزء خلال عملية التطبيق والتنفيذ، إلى دراسة عدد الذين سيعملون في هذه العملية ووظيفة كل واحدٍ منهم، ومواصفاته، والمخاطر المحتملة، والمناخ والبيئة التي ستتم فيها هذه العملية، إلى تحديد الأجزاء المكونة الصغيرة لمواد البناء وقوتها ومتانة البناء، ومدى تكامله مع بقية العناصر، وقوة تحمله بعد البناء، وكيفية التصميم الداخلي والخارجي لكل طابقٍ في ذاك البناء، ومستلزماته البنائية والمعدات والوسائل والتقنيات التي تستلزمها كل هذه العملية، وغيرها...؛ فإنّ عملية تصميم وهندسة المنهاج تكون أكثر دقة وتعقيدًا طالما أنها تتصل بالبشر وليس بالحجر.

  

    فالتخطيط لعملية هندسة وبناء المنهاج التربوي تستلزم الكثير من التحضيرات القبلية، من تحديد المواد الأولية التي يرتكز عليها هذه المنهاج من مباني وأصول وأسس معرفية وعلمية، إلى تحديد الأهداف والغايات العامة، ومستوى توزيع هذه الأهداف على مراحل ومستويات متعددة، وبلحظات مختلفة باختلاف الساحات والميادين التي ستطالها العملية التربوية، واختلاف الجهات المستهدفة من هذه العملية، والقيميين عليها من مربين ومعلمين ومدربين كفوئين، إلى تحديد التناسق الداخلي للمعارف والاتجاهات والمهارات والسلوكات، وكيفية اشتقاقها من الأهداف والغايات العامة، إلى تحديد المنتج المفترض على مستوى الفرد المتربي، وتحديد الجدول الزمني الذي ستتم فيه تلك العملية وفق للأجزاء الزمنية الدقيقية، من حصص تعليمية وأنشطة تربوية صفية واللاصفية، إلى تحديد الأساليب والطرق التي تتلاءم مع الأهداف التربوية العليا والدنيا، وملاءمتها للمتربين والمواد المعرفية والعلمية، وصولًا إلى تحديد الوسائل والتقنيات التربوية التي سيتم استخدامها داخل العملية التربوية بما يساعد على تنفيذ هذه العملية بفاعلية متكاملة ومتناسقة، فضلاً عن تحديد المنهاج لمستوى معرفة وقدرات ومهارات المربين الموكلة إليهم مهمة صناعة المتربين من خلال تطبيقات المنهاج وتحقيق أهدافه، ويضاف إلى كل ما تقدّم تحديد مراحل وآليات التقييم الذي يحتاجها المنهاج، فضلًا عن تحديد كل ما يتعلّق بعملية تطوير المنهاج وتحسين فعاليته في تحقيق الأهداف والغايات العامة التي أُنشِئَ أو بُنيىَ لأجلها.

 

لكن هنا يُطرح السؤال التالي:

هل هناك اتجاهات متعددة في هندسة وتكوين وبناء وتصميم المنهاج ؟ وما هي أبرز الإشكاليات التي توجه هذه العملية؟

   في البداية لا بد من تحديد معنى تصميم المنهاج، ثم نشرع في بيان الإجابة على هذا السؤال، علمًا أن البحث في مسألة تصميم المنهاج يأتي ضمن إطار البحث في مراحل إعداد المنهاج التربوي، حيث سنقوم بالاطلالة على ذلك ضمن الفصول الآتية، إلا أنّ الأمر هنا يستدعي بعض البيان لكي يشكلُ مدخلاً مساعدًا للإجابة على السؤال المطروح.

 

معنى تصميم المنهاج

يأخذ معنى التصميم حيزًا خاصًا لدى المختصين بإعداد المناهج التربوية، حيث يحدّده البعض بأنه "مجموع الخطوات الهندسية المنظمة والمنسَّقة المستندة إلى أسس مُحددة، والرامية إلى تشكيل عناصر المنهاج وخبراته وفعاليته وزمنه، بطريقة تضمن تحقيق ما ينبغي أن يُحققه من أهداف، أو أنها تضمن إيصاله لمجموعة متعلمين بأعلى مستوى من الجودة والفعالية"[2]، أي أنّ هذه المرحلة من مراحل إعداد المنهاج التربوي تتكوّن من مجموع من الإجراءات الدقيقة والمتداخلة، والتي تحتاج إلى عناية عالية الفعالية في تحديد كل جزءٍ مكوّنٍ لها، إن على مستوى تحديد الأهداف الفرعية[3] ذات المجالات المتعددة(المعرفية، العاطفية الوجدانية، المهارية الحركية) والساحات المختلفة (النفسية، الروحية العبادية، الاجتماعية، البيئية، الوطنية، الصحية، الجسدية، العلمية، التقنية، الإدارية، الفنية الجمالية، السياسية، ...إلخ)، أو تحديد الإدارة اللازمة والضرورية التي تعمل على تنفيذ وتطبيق المخطط وتوفير كل مستلزماته، وتحديد الإمكانيات المالية والمعنوية الضرورية لتطبيق هذا المنهاج، وتوفير المربين ذوي الكفاءات والقدرات العالية، الذين يعملون تنفيذ المنهاج بفعالية تامة، وجودة عالية، أو على مستوى تحديد البُنى التحتية والوسائل التقنية الضرورية، أو على مستوى تحديد الطرق والأساليب المسهلة لعملية تحقيق الأهداف المرسومة، بأقل جهد، وأسرع وقت، وأقل تكلفة ممكنة.

 

إلا أنّ هناك مجموعة من الاتجاهات التي تحكم عملية هندسة وتصميم المنهاج، نذكر منها ما يلي:

 

أ-الاتجاه الذي يُركز على هوية المتربي وفق تخصص ما، أو وفق محتوى تربوي محدد:

    إذ أنّ مصممي المنهاج يعمدون إلى تحليل المجالات أو الساحات التربوية وفق تخصصات محددة، ثم يقومون بالتركيز على ساحة أو مجموعة ساحات محددة من باقي الساحات أو التخصصات التربوية، بحيث لا تكون التربية هنا شاملة لكل الساحات التربوية، أي أن التصميم الذي تعتمده ينحو باتجاه محدد، وحينئذٍ سيكون التركيز على ماذا نربي؟ أكثر من التركيز على كيف ولماذا وأين ومتى ...نربي؟ فهوية المتربي التربوي هو محور وموضوع التصميم بالدرجة الأساس، بحيث يأخذ ما نسبته 60 % من نسب المتغيرات المؤثّرة في تصميم وإعداد وتكوين المنهاج، بينما المتربي، والبيئة التربوية، والأساليب والطرق التربوية والإدارة التربوية والوسائل والتقنيات وباقي الموارد المتاحة والضرورية للعملية التربوية تشكل باقي الاهتمامات التي توليها عملية التصميم المفترضة للمنهج، فالمحتوى التربوي من معارف واتجاهات ومواقف وقيم  وسلوكات لها الجانب المحوري في عملية تصميم وبناء المنهاج هو المحتوى التربوي.

 ب- الاتجاه الذي يُركّز على النظرية التربوية:

   لقد تقدم البحث عن التطور التاريخي للتربية، من حيث المقاربة والتعريف، والمنحى العام التي تقصده، حيث تطور العديد من المفاهيم والجوانب والعناصر التي تتكون منه التربية، وقد كانت النظريات والفلسفة التي ترتكز عليها التربية، وقد تداخلت مع تلك العوامل والمتغيرات المعرفية والفلسفية والاجتماعية والدينية -في بعض الأحيان-النظريات ذات الصلة ببعض العلوم والجوانب المرتبطة بالتربية، حيث عكس تقدم البحث فيها على التربية ومضامينها، فتقدم علم نفس النمو، أو علم النفس، أو التحوّل الذي طرأ على علم الاجتماع مثلاً مع أوغيست كانت، كذلك ما قدمه وليم جيمس (Willem Jemes) في فلسفته البراغماتية، وجون ديوي (Jone Dewy) وما عكسته نظريته في بروز النزعة السلوكية في المناهج التربوية، والتي كانت لهذه المدرسة-السلوكية-الأثر البالغ على المنحى العام للتربية في الخمسينيات من القرن الماضي، وقد جاء بعده تيلور(Tyler 1951) في إعادة تنظيم المنهاج، وتكللت هذه الجهود بما قدمه بلوم (Blom1964)[4] في منظومة الأهداف، ومستوياتها ومجالاتها، وتبعه على ذلك آخرون أمثال كرثول وسمبسون، حيث طوّروا في الأهداف الوجدانية، والمهارية، وقد شكّل ذلك مدخلاً أساسيًا للإتقان والجودة في بعض المجالات التربوية التعليمية، وقد ألتقى مع هذه الجهود "أفكار المدرسة السلوكية المعرفية الحديثة، لا سيما (بياجيه)، و(برونر)، (وأزبل) و(فايكوتسكي) التي بدأت تركّز على الجهد العقلي للمتعلّم، وتعتبر التفكير مهارة ينبغي التدرب عليها، كما اعتنت بالموهبة والابتكار باعتبارها واجبًا أساسيًا من واجبات المنهاج إثارة وتوجيه الموهبة والإبتكار"[5].

 

ج- الاتجاه الذي يجعل المنهاج يستند إلى مواصفات المهن أو المهمة العملية:

   

   نظرًا للواقع الاقتصادي والاجتماعي المتبدّل، والتي تداخلت فيه العديد من المتغيرات التي تجعله في ديمومة من السيرورة المتزايدة، إن على مستوى فهم المكونات البشرية له، أو على مستوى نمط الحياة الفردية والمؤسساتية، بكل مناحيها الاجتماعية والإدارية، حيث تستجد الوظائف والمهمات التي تتطلبها أسواقها وساحاتها المتشعّبة، والمتعددة، بل قد يكون التبدل والتغيّر على مستوى الداخلي لنفس الوظائف والمهام، مما يتطلب تعديلاً في معارف واتجاهات ومهارات الأفراد الذي سيتولّون القيام بهذه المهام أو الوظائف، مما ينعكس على مسار العمليات التربوية داخل المؤسسات والجهات المعنية والمختصة بتربية وتأهيل وتثقيف وتدريب وتعليم هؤلاء الأفراد، ويقتضي من المنظرين والمصممين لمنهج ما النظر إلى تلك الحاجات الوظيفية ودراسة أدوارهم، ومهامهم، باعتبارها المنطلق والمرتكز الذي لا بد من أن تتمحور حوله التربية، أي أن المنهاج هنا يكون قد تمركز على الاجابة عن لما نربي؟

  

   وهي -مما لا شك فيه-  نظرة قاصرة إلى التربية وإلى الإنسان ككائن بشري، وإلى دوره الحقيقي في هذه الحياة، وهو ما يُعزى إلى ضعف في تحديد وصياغة الفلسفة التربوية التي تستند إليها تلك المناهج، ومما يجعل التربية منحكمة لظروف آنية، متشعبة لا تلبس أن تتبدّل وتتغير، وتأتي ظروف أخرى لتحل محلها، وتجري تغييرًا جذريًا لما سبقها.

 

 

د- الاتجاه الذي يجعل المنهاج كنظام مفتوح:

 

     يتكون المنهاج من مجموعة من العناصر المتكاملة، والتي قد تصل إلى تسعة عناصر(الغايات والأهداف، المحتوى، الأساليب والطرق، الوسائل والأدوات، الأنشطة التربوية، البرمجة الزمنية، الأدلة التربوية التطبيقية، التقييم والتقويم التربوي)، حيث تتوزّع هذه العناصر على أجزاء النظام(المدخلات، العمليات، المخرجات، والتغذية الراجعة)[6] واعتمادًا على هذا الاتجاه في إعداد المنهاج الذي أحكم منهجية النظم في مكوّنات المنهاج، وجعلته في اطارٍ متكامل ومتناسق ومتماسك، فتحديد المدخلات وتحليلها بدقة، ورسم الخطوات اللازمة لها وكيف ارتباطها مع بعضها، وذلك قبل انتنقالها إلى مرحلة العمليات ومعالجتها، على مستوى التخطيط والتصميم، ثم التنفيذ، وصولاً إلى مرحلة المخرجات البشرية والمعنوية والمادية للمنهج، وما يرافق ذلك من مرحلة وضع التغذية الراجعة لكل مكوناته وعناصره في سبيل عملية التطوير والتحديث المطلوبة.

 

 

 

 

  كل ذلك لا بد من أخذه بعين الاعتبار في دائرة تحديد البيئة المحيطة بهذا النظام ومكوناته ومدى مساهمتها في التأثير عليه، ودفع عجلته إلى الأمام، أو تراجعه أو بطء حركته، إلا أنّه لا يخفى تأثير نظرة الانتاج الصناعي والإدارة البرغماتية على هذا الاتجاه، وإن كان هناك من فائدة على هذا المسوى فهي بمقدار بيان العلاقات الداخلية لعناصر المنهاج كيفية تفاعلها فيما بينها في سبيل تحقيق الأهداف والغايات التربوية المرسومة والمحددة مسبقًا.

 

هناك اتجاهات أخرى سنعرضها ونشرحها في المقالة التالية التي سننشرها على هذا الموقع، بعون الله تعالى.

 

 

 


[1] كنعان، عباس، (الكاتب) المنهج التربوي، الهندسة والبناء، وفق منطلقات إسلامية تأصيلية، دار الولاء، بيروت، ط1، نشر وتوزيع 2024م، ص23.

[2] -الزند، وليد خضر، وعبيدات، هاني حتمل: المناهج التعليمية، المناهج التعليمية (تصميمها، تنفيذها، تقويمها، تطويرها)، الأردن، عالم الكتب الحديث للنشر والتوزيع، ط1، 2010م، ص71.

[3] - صياغة الأهداف التربوية والتعليمية في جميع المواد الدراسة، كتاب الخمسة آلاف هدف، سعادة، جودت أحمد، دار الشروق، الأردن، ط1، 2001.

[4] - صياغة الأهداف التربوية والتعليمية في جميع المواد الدراسة، كتاب الخمسة آلاف هدف، سعادة، جودت أحمد، م.س.

[5] - الزند، وليد خضر، وعبيدات، هاني حتمل: المناهج التعليمية، م.س، ص103.

[6] -كنعان، عباس، (الكاتب) المنهج التربوي، الهندسة والبناء، وفق منطلقات إسلامية تأصيلية، دار الولاء، بيروت، ط1، نشر وتوزيع 2024م، الفصل الثاني.

أضيف بتاريخ :2023/10/23 - آخر تحديث : 2023/10/23 - عدد قراءات المقال : 1011