الى الاعلى
  • النظـــرة للمعلّــــم ينبــــغي أن تكون نظرة تجليل وتكريم "الامام الخامنئي"

صناعة العادات السلوكية كأسلوبٍ تربوي


صناعة العادات السلوكية كأسلوبٍ تربوي
(مقاربة إسلامية تأصيلية)


إعداد: عباس كنعان *  


    كثيرًا ما يتناول التربويون موضوع العادات السلوكية لدى المتربين، لكونها تطبع وتتسم شخصياتهم بها، بل وتتشكل معظم شخصيات المتربين من عادات سلوكية يمارسونها في حياتهم اليومية، عن وعيٍ وإلتفات وقصد، أو من دون ذلك، إلا أنهم اعتادوا على ذلك الفعل أو العمل أو السلوك في حياتهم، والعادة السلوكية هي عمل كرّره المتربي واعتاد القيام به، حتى أصبح يأتيه ويمارسه من غير تكلف، وإمعان نظر، فيقوم به كلّما واجه مؤثّرًا خاصًا بهذا السلوك. 


وكما يمكن أن تكون هذه العادات عادات سلوكية حميدة وإيجابية، كذلك من الممكن أن تكون عادات سيئة وسلبية مذمومة، فعن علي بن أبي طالب (عليه السلام) أنّه قال في موارد التحكم وتوجيه العادات:"ذلّلوا أنفسكم بترك العادات، وقُوُدوها إلى فعل الطاعات" ، وعنه(عليه السلام):"غيّروا العادات تسهل عليكم الطاعات" ، وكقوله (عليه السلام) أيضًا: "الفضيلةُ غلبة العادة" ، وكذلك قوله(عليه السلام):"غالبوا أنفسكم على ترك العادات تغلبوها، وجاهدوا أهواءكم تملكوها" ، حيث أراد بتلك العادات الممارسات السلوكية الخاطئة التي تبعد عن الطاعات.


    أما التعبير بأحاديث أخرى عنه(عليه السلام):"العادة طبعٌ ثانٍ" ، وقوله(عليه السلام): "أصعب السياسات نقل العادات" ، وعنه (عليه السلام): "للعادة على كلّ إنسان سلطان" ، وعنه (عليه السلام): "لسانك يقتضيك ما عوّدته" ، وعنه (عليه السلام):"لسانك يستدعيك ما عوّدته ونفسك تقتضيك ما ألفته" . حيث أن مفاد هذه الطائفة من الأحاديث والأقوال أنها تحتمل الوجهين، العادات الإيجابية، والعادات السلبية.

     ومن المعلوم أنَّ العادات السلوكية هي من المسائل النفسية والتربوية الهامة التي تُطرح في أكثر من مجال، وقد ركّزت المدرسة السلوكية على معالجة العادات السلوكية لدى المتربين، حيث عرفتها المدرسة السلوكية النفسية بأنها(العادة Habit): "سلوك مكتسب، يقوّيه التكرار والممارسة، ويضعفه الإهمال وعدم الممارسة وعدم التعزيز، وهو في علم النفس يُقصد به المستويات الدنيا من الأداء، وخاصة في السلوكيات المادية، مثل عادتنا اليومية في قضاء شؤون الحياة، مثل المآكل وارتداء الملابس وتنظيم الأشياء، وغالبًا  يكمن وراء العادة دافع نفسي أيضًا، إلا أن مفهوم العادة قد يتسع ليشمل مفهوم بعض العادات الفكرية. والعادة سلوك أو أداء متكرر، ومصحوب عادة بتعزيز للفرد الذي يؤديه، إما في شكل كسب مادي أو ثانوي، أو في شكل اختزال ألم وتوتر، أي تعزيز سالب، والتكرار في أداء السلوك يحقق ميزة سهولة أدائه بتلقائية، ولكنه يحدث أيضًا نوعًا من الجمود في سلوك الفرد، ويسلبه التفرد، والمبادأة في المواقف اليومية، ويطبعه بالآلية، ويشيع لديه روح الملل والروتينية...وأهمية العادة في تنمية السلوك وفهمه ودراسته واضحة، فهي الوحدة الأساس للسلوك المكتسب، ولذلك كانت موضع اهتمام معظم نظريات فهم السلوك ودراسته" .  


    وبعد تتبعنا لهذا الموضوع، والتأمل في مقارباته المتعددة، خلصنا إلى أنه ومن خلال مجموعة من الإجراءات والحيثيات -التي لا بد من أخذها بعين الاعتبار- يمكن تحويل ذلك إلى أسلوب من الأساليب التربوية، بل يمكن أن يصبح هذا الأسلوب أكثر تلك الأساليب فعاليّة على مستوى تعديل سلوك المتربين، والعادة نوع من العلاقة القائمة بين الإنسان وسلوك ما، يظهر هذا السلوك لدى المتربي من دون الحاجة إلى تعقّل له، أو تكُّلف منه، أو إمعان نظر، بل يصدر عنه بشكلٍ تلقائي، حيث يصبح كذلك نتيجة التكرار والممارسة التي ترسّخت لدى المتربي، ويصبح بطبعه، ومن سماته الشخصية، ومن ملكاته النفسية، ومن هنا نفهم قول الإمام علي (عليه السلام) الذي تقدم: "العادة طبعٌ ثانٍ" ، وكذلك بقية الأحاديث التي أوردناها.


ولكي يصبح السلوك الاختياري عادة؛ لا بد أن يطوي عدة مراحل، هذه المراحل لا يمكننا تحديدها إلا إذا قمنا بتحليل الفعل الإنسانيّ ، وكيف ينشأ هذا الفعل، وعليه يمكن لنا تحديد تلك المراحل على الشكل التالي: 

  • المرحلة الأولى التصور (المعرفة التصورية): بأن يتصوّر الإنسان، أو يخطر بذهنه تصورًا ما عن فعل أو أمرٍ معينٍ، من كمالٍ ومصلحة يراه فيه، أو مفسدة، كأن يتصوّر في القيام بمساعدة المحتاجين مصلحة حسنة، أو في الاعتداء على الآخرين مفسدةٍ ما.

  • المرحلة الثانية (التصديق أو الاعتقاد): فبعد أن يصور الإنسان-في المرحلة السابقة- المصلحة أو المفسدة لذلك الفعل أو الأمر، وبعد أن تشتد تلك المعرفة وتتكامل في نفسه؛ فيُصدّق ويعتقد في نفسه بأن القيام بهذا الفعل أو السلوك حسن وفيه مصلحة بإتيانه، أو قبيح وفيه المفسدة وبالتالي تركه، فإذا اعتقد بذلك تتشكّل عنده قضية عملية مفادها أنَّ عليه القيام بهذا الفعل، أو لا بد من تركه.

  • المرحلة الثالثة (الحبّ والشوق): بعد أن تتجلى تلك المعرفة وتصبح اعتقادًا مصدّقًا في نفس الإنسان، يتولّد في قلبه حالة شعورية، من الميل والحبّ فالشوق والرغبة للقيام بالسلوك والفعل، أو ما يصطلح عليه في المدرسة السلوكية النفسية باللذة، وذلك الشوق والانجذاب واللذة ناتج عن قوة نفسية هي القوّة الشهوية، أما حالة الكراهة والنفور الناتجة عن قوة نفسية هي القوّة الغضبية .

  • المرحلة الرابعة (الإرادة): وهي مرحلة استعداد النفس الإنسانية للقيام بالسلوك أو الفعل والعمل، بعدما قطع بنفسه المراحل السابقة، حيث يصبح مريدًا وعازمًا على القيام بالفعل والسلوك، أو ترك القيام به.

  • المرحلة الخامسة (السلوك والعمل): هي القيام العملي بمقضى ما قُرّر على ضوء المرحلة السابقة، فإصدار الأمر للقيام بالفعل أو الترك من قِبَل القوّة العاملة للبدن للقيام بالعمل قد تحقّق، فتصبح النفس منقادة للقوّة العاملة والمتحكمة بالعضلات والأعضاء والجوارح، ولامتثال الأمر بالعمل والسلوك.

وهذه المراحل الخمسة مشتركة في كل الأفعال السلوكية، إلا إذا كان السلوك عبثي، أو غرائزي بحيث يكون الإتيان به تلقائيًا-أي أمر خلقي وقد خُلق وفطر الإنسان عليه- أو عن غير قصد، أو يأتي به الإنسان عن غفلة، وهو ما اصطلح عليه بالسلوك اللإرادي، أو اللاواعي، أو السلوك الغرائزي، وهو ما يمكن أن يكون مشتركًا-أيضًا- بين الإنسان والحيوان.


إلا أن العلم لدى الحيوان وتصوره، وإرادته واختياره تكون بمستوى(الحيوان)، وهو أدنى بكثير من مستوى وعي وتصور وإرادة الإنسان.

  • المرحلة السادسة (التكرار): والتكرار هو القيام بالفعل أو السلوك بناءً على قطع المراحل الخمسة المتقدّمة، إلا أنه كلما تكرّر الإتيان بذاك العمل أو السلوك من قبل الإنسان، كلّما ضعف الجهد الذي يحتاجه لتحصيل المرحلة الأولى (وهي التصور أو المعرفة التصوريّة)، وتولّد التصديق أو الاعتقاد (المرحلة الثانية) بشكل سهل وتلقائي، وبقي الشوق والحب والرغبة واللذة (المرحلة الثالثة)، فتتوقّد من ذلك الإدارة(المرحلة الرابعة)، إن لم نقل أنه يزداد إصرارًا، وبالتالي ترسخت الإرادة للاتيان بالسلوك، وأما عند الاتيان بهذا السلوك (المرحلة الخامسة) فيشعر بأنه قد قطع تلك المراحل بسهولة ويسر أكثر من المرة الأولى، وهكذا حتى يصبح ذاك السلوك مع التكرار عادة وملكة راسخة لدى الإنسان، يأتي بها دون عناء أو تكلف جهد (وهي المرحلة السادسة والأخيرة).

 

     وقد يقولنَّ قائلٌ، بأنه ما الفائدة من أن تتحول هذه الأنشطة والسلوكات إلى عادة لدى الفرد؟ وهل يحتاج إلى أن يقطع الإنسان كل تلك المراحل؟


والجواب: أنه ونظرًا لحجم وكثرة السلوكات والأعمال التي يحتاجها الإنسان في حياته، فإنّ ذلك يرتب عليه جهودًا كبيرة، ويحمّله أعباءً مضنية له، وقد فُطر الإنسان وخُلق على نحوٍ يستطيع تحويل تلك السلوكات المتكررة إلى عادات، أي أنه يقوم بهذا السلوك دون جهد وعناء، وبشكلٍ تلقائي.

 

هذه العادات يمكن تحويلها إلى أسلوبٍ تربوي؛ لتقويم سلوك الفرد، إذا ما أحسنا التوجيه والتحكم بتلك المراحل التي يقطعها السلوك ليصبح عادة متجذّرة لدى الفرد، أو أن نقوم بالعمل على تبديد تلك العادات السيئة المترسّخة في سلوك المتربي، نعم تختلف مقاربة مسألة العادة السلوكية باختلافات النظريات النفسية لفهم السلوك الإنساني، أو التي تقوم بتفسير ذلك السلوك،  والبحث فيه ذا أهمية بالغة، إلا أنه خارج عن موضوع هذا المقال .

 

لتنزيل المقالة مع المصادر و المراجع إضغط هنا 

 


* الشيخ الدكتور عباس كنعان مدير تطوير المناهج التربوية  في مركز الأبحاث والدراسات التربوية

أضيف بتاريخ :2020/09/07 - آخر تحديث : 2022/11/22 - عدد قراءات المقال : 8790

الكلمات المفتاحية : عادات سلوكية مقاربة اسلامية