قراءة نقدية لوثيقة التنمية المستدامة 2030
اعداد : الشيخ الدكتور عباس كنعان، م. مديرية تطير المناهج في مركز الأبحاث والدراسات التربوية
وثيقة 2030، أو أهداف التنمية المستدامة، والمعروفة أيضًا باسم خطة التنمية المستدامة، وهي خطة استراتيجية صادرة عن إحدى المنظمات التابعة للأمم المتحدة اليونيسكو ، بعد اجتماع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، ومناقشتها للتنمية المستدامة. وتحتوي هذه الوثيقة على مجموعة من الأهداف العامة البالغ عددها 17 هدفًا اساسيًا، مع 169 غاية وهي عبارة عن مؤشرات أو أهداف فرعيّة تنبثق عن الأهداف الأساسية.
وقد عبّرت هذه الوثيقة عن نفسها من أنّها خطة عامة للبشريّة جمعاء، تهدف لمواصلة حياة الإنسان للألفية الثالثة، وإلى إنقاذ العالم، أو تحويل عالمنا "نحو الأفضل"، وقد انبثقت هذه الوثيقة عن مجموعة من الوثائق السالفة الصادرة عن الإمم المتحدة.
وبالرغم من الأضواء البرّاقة التي تلقيها هذه الوثيقة، على المتابعين لها والمهتمين بها، وقدرتها التجميلية في جذب الكثيرين الطوّاقين إلى تغيير الواقع الراهن المرير، فإنّها تحمل في طياتها الكثير من المخاطر، والكثير من السموم، حيث تكون تكاد بمثابة الحيّة الملساء، ليّنُ مسها، قاتلة سمها، ولا يخفى على المتابعين مدى ما أثارته هذه الوثيقة من نقاشات على مستوى الكثير من بلدان العالم، بالرغم من أنها حصلت على موافقة الأكثرية في الجمعية العمومية، مع الكثير من التحفظات، أو الرفض على مستوى برلمانات العديد من الدول والمنظمات العالمية.
وفي هذا السياق، نسجّل مجموعة من الملاحظات، التي تتركّز على الجانب التربوي والاجتماعي، علمًا أنَّ الجوانب السياسية، والاقتصادية، والأمنية والقانونية والبيئية لهذه الوثيقة لا بد من مناقشتها أيضًا، حيث تتداخل كل هذه الطروحات مع بعضها البعض، إلاّ أنَّ التخصّص في المناقشة يقتضي التفكيك، ولو مرحليًا. أما هذه الملاحظات فهي على الشكل التالي:
-الدور الإبهامي للمصطلحات: لقد حوت هذه الوثيقة مجموعة من المصطلحات المبهمة، وذات الدلالات المتعددة، مثل: العنف، التطرف، الإرهاب، السلام، ..إلخ، حيث لم تُحدد هذه الوثيقة ما المقصود من هذه المصطلحات بدقّة، مما يفتح الأبواب أمام الاجتهادات الملتبسة في واقعنا الذي نعيش، فيصبح المقاوم الذي يدافع عن أرضه وعرضه، ومقدساته إرهابيًا، مدانًا، بل محاصرًا وملاحقًا تستهدفه هذه الوثيقة بكل مندرجاتها وبرامجها، ويصبح السلام الذي تريد أن يرسيه المجتمع الدولي سلبًا للأراضي المقدسة، وحماية للكيان الصهيوني الغاصب لدولة فلسطين، وهكذا.
- الدور الإسقاطي: توحي مختلف الفقرات التي نص عليها هذا القرار من أنّها وثيقة توافقية، ومجمع ومتّفق عليها، بل أنها مصدر قبول جميع الدول، في حين أنّ الكثير من الدول لم توقّع عليها، وبعض الدول التي وقّعت عليها، تتحفظ على الكثير من مضامينها، ودولٌ أخرى وقّعت عليها، لكن رفضت برلماناتها الرسمية إبرام معاهداتها، مما يُحتّم علينا الالتفات إلى عدم وجود التوافق الذي تريد أن تصبغه هذه الوثيقة على مضامينها.
- مفاهيم غير مقبولة: لقد حوت هذه الوثيقة الكثير من المفاهيم والطروحات المعرفية، والاقتصادية والاجتماعية، التي لا تتوافق مع قيمنا وثقافتنا الإسلامية، أو الشرقية، كالمساواة بين الجنسين (بدلاً من أن تستخدم مصطلح العدالة بين الجنسين)، ملكية الأراضي، المساواة في الإنفاق بين الرجل والمرأة،...إلخ.
- إغفالها البعد الديني كمتغير اجتماعي: مع مراعاتها(كما تدعي) واعترافها بالاختلافات الموجودة على مستوى الشعوب والبلدان، كالاختلافات الثقافية، والإثنية، وقدرات البلدان، والواقع المعيشي، والتنموي، ... حيث لم تَذكر البعد الديني كمتغير حيوي وأساسي على مستوى الشعوب، مما يجعله أمرًا غير ملحوظ في الطروحات والأهداف والمضامين، وهو أمر يحتاج إلى حذر وإلتفات.
- التهافت الداخلي: بين مضامينها، حيث تتهافت أو تتناقض محتوياتها وطروحاتها، ففي الوقت الذي تقول بأنّ تلك الأهداف 17 لا تتجزأ، تقول بأنّها تراعي خصوصية كل بلد، ودولة، أي أنها لم تراعِ الحيثيات الخاصة بتلك البلدان، والتي يمكن أن يتعارض مضمونها مع مبادئ تلك الدولة او دستورها، أو قوانينها، مما يجعل هذه الوثيقة تغييرية خطرة على هذا الصعيد.
- إغفالها لموضوع الأسرة: بالرغم من اطلالتها على الواقع الاجتماعي وتناولها للكثير من التحديات المجتمعية، لم تتطرق إلى إشكالية وتحديات الأسرة في واقعنا الراهن، في حين أنها تناولت قضايا المرأة، وعملها، وحقوقها، والعنف ضدها وضد الأطفال، والفقر، وغيرها من القضايا ولم تتطرق إلى الموضوع الأكثر حيوية، والأكثر حساسية، على مستوى مكونات الشعوب والمجتمعات البشرية حاليًا وهو الأسرة، والتي تكاد في مرحلة تهدد بموت الكثير من المجتمعات البشرية في الحقبات الزمنية القادمة، علمًا أن هناك إشارات ثانوية للأسرة لا ترتقي إلى المستوى المطلوب، مما يجعلنا أمام مجموعة من الشكوك خاصة مع طرح موضوع الجنوسة، والجندرة.
- حاكمية البعد الاقتصادي: من خلال مدخليات وصف الوقائع والمعالجات التي تطرحها الوثيقة، نبيّن مدى حاكمية البعد الاقتصادي في طروحاتها، ومعالجاتها، إذ يمكن وصف ذلك بحاكمية البعد الليبرالي، على هذه الرؤية التحولية للمجتمعات البشرية، فضلاً عن أنّ انحكام هذه الرؤية للبعد الاقتصادي، يجعلها تحت وصاية وسلطة الدول المموّلة والمقتدرة اقتصاديًا، وأما الدول الفقيرة، فهي محكومة، وتابعة لما تقرره تلك الدول الغنية والمقتدرة اقصاديًا. أضف إلى أن مسألة التصنيف التي تتضمنه هذه الوثيقة للدول والمنظمة بناءً على مؤشراتها يجعلها في قوة الإلزام والتسلط، وليس الاختيار والحرية بالعمل بها أو عدم العمل بها.
- ارتكازها على الوثائق الدولية السابقة : والتي هي محل تحفظ ونقاش، بل ورفض، كوثيقة القضاء على العنف ضد المرأة ، وإن كنّا لا نقبل بأي ممارسة للظلم، سواء كان على المرأة، أو الرجل، فإنَّ هذه الوثيقة تحوي في طياتها أيضًا مفاهيم محل إلتباس، وهناك ما يتعارض مع الأحكام الشرعية الإسلامية، مما لا يمكن القبول به، فضلاً عن الطُروحات المتعلقة بحرية المرأة، وتمكين المرأة، وعملها، والمنظور الجنساني،...إلخ.
- ربط التنمية المستدامة بالسلام: حيث نصّت الوثيقة على ما يلي: "فلا سبيل لتحقيق التنمية المستدامة دون سلام"، وهو محل إشكالي وخطير، يدخل في ميدان الاشتباك والصراع سواء على المستوى السياسي أو الأمني أو العسكري، وهو ما لا يمكن التسليم به، بل لا بد من مواجهته، بشتى الميادين، لارتباطه بقضيّة مقدّسة بالنسبة إلينا.(وهي قضية فلسطين والاحتلال الاسرائيلي لها).
- طرحها لمفاهيم برَّاقة خيالية: كالقضاء على الفقر، وليس الحد منه، أو الصحة والسلام العالمي، مكافحة التلوث، بدلاً من استخدام مؤشرات نسبية لتحقيق مستوى معين منها، قابلة للتحقق على المستوى المنظور.
فضلاً عمّا حوته هذه الوثيقة من مفاهيم إيحائية، كالاشارة إلى أنّ العمل بهذه الوثيقة هو الفرصة الوحيدة لإنقاذ كوكب الأرض ، وما تضمّنته من شروط تعليقية لتحقيقها ، وغيرها الكثير من الإشكالات والملاحظات التي تجعلنا نتوقف عند هذه الوثيقة، ونخفف من الاندفاع نحو تبنيها أو التماثل مع برامجها ومضامينها، وشعاراتها، ومؤشراتها، ومسك الختام نذكر نص ما أورده سماحة الإمام القائد الخامنئي(حفظه الله) على هذه الوثيقة، حيث قال خلال إستقباله أساتذة الجامعات وأعضاء الهيئات العلمية والنخب الجامعية:
"لقد تحدثنا بعض الشيء عن وثيقة 2030 للتربية والتعليم، وأحيطت بمختلف الأقوال. وبالتالي فإنّها قضية بالغة الأهمية. وكما أشاروا فإنّ هناك وثيقة عليا للأمم المتحدة موسومة بوثيقة التنمية المستدامة، وتتفرع منها وثيقة 2030 المتعلقة بالتعليم والتربية. والحقيقة أن ما خططوا له في وثيقة التنمية المستدامة - ومنها وثيقة 2030 هذه - هو أنهم يهدفون إلى وضع منظومة فكرية وثقافية وعملية للعالم أجمع. ولكن من الذي يقوم بذلك؟ ثمة أيادٍ خفية وراء منظمة الأمم المتحدة، واليونسكو هنا مجرد وسيلة وواجهة. فهناك أيادٍ تعمل على إنتاج منظومة لكل شيء في بلدان العالم ولكافة الشعوب.. منظومة تنطوي على الفكر والثقافة والعمل، وعلى الشعوب أن تعمل على أساسها. ويتعلق جانب منها بالتربية والتعليم، وهو هذه الوثيقة الموسومة 2030. وهذا بالتالي خطأ وحركة معيبة. لماذا؟ من هم هؤلاء الذين يضعون وثيقة التنمية المستدامة؟ وبأيّ حق يُدلون بآرائهم حول البلدان والشعوب وتقاليدهم ومعتقداتهم بأنه ينبغي لكم أن تفعلوا كذا وكذا، وكلها (ينبغي)، إنه لمن السطحية أن يقولوا بأنها ليست ملزمة.. كلا، الحقيقة أن كل ما فيها هو ملزم، وكل واحد من هذه التعاليم إن لم تحقق، سوف تُسجل بعد ذلك كنقطة سلبية ويقال: "إنكم سوف تُدرجون في قعر الجدول الفلاني وتُسلب منكم الميزة الفلانية"! والواقع أن هذه كلها إلزامات حتى لو لم تكن في ظاهرها كذلك. وما الضرورة في ذلك؟ قبل سنوات طرحنا «النموذج الإيراني - الإسلامي للتقدم»، ولم أستخدم كلمة التنمية عن عمد، والسادة القائمون على هذا الأمر والذين كنا على اتصال بهم في ذلك الحين يعلمون بأني أتعمّد عدم استخدام كلمة التنمية، لأنها كلمة غربية ولها مفهومها الغربي. وإنما أستخدم كلمة التقدم.. نموذج التقدم الإيراني - الإسلامي، فلابد لنا أن نفتّش عن هذا النموذج. لماذا يجب أن تقدّم الأيادي الغربية نموذجاً لتقدمنا على نحو هذه الوثيقة الخاصة بالتنمية المستدامة أو وثيقة 2030 وما شاكلها؟ من الذي ينبغي أن يقوم بهذه المهمة؟ إنها مهمتكم، ومهمة الجامعات، ومهمة الأساتذة" .
والحمد لله رب العالمين
لتنزل المقال مع المصادر كاملةً
تعليقات