الى الاعلى
  • النظر إلى وجه العالم عبادة " الرسول الأعظم (ص) "

محكات ومعايير تقويم وتحليل محتوى المنهج التربوي 2


 

إعداد: عباس كنعان 

(المقالة الثانية)

 

   لقد تناولنا في المقالة السابقة  وفي نفس الموضوع، مجموعة من هذه المحكات أو المعايير التي يتم وضعها من قبل مهندسي المناهج أو معديها ومصمميها، في سبيل تقييم وتقويم المنهج التربوي أو المنهج التعليمي، علمًا أن الإحاطة بهذه المعايير والمحكّات تولّد إحاطة عامة لتحليل إي من هذه المناهج، فضلاً عمّا تُشكل من عاملٍ مساعد على تطوير شامل ودقيق لها، وقد أوردنا في مقالتنا السابقة خمس منها، وهي على الشكل الآتي:

  • محك أو معيار الصدق أو الصلاحية ((Criterion of Validity

  • محك ومعيار الأهمية (Criterion of Significance)

  • محك أو معيار اهتمامات واتجاهات المتربين(Criterion of learners’ interests and trends)

  • محك أو معيار قابلية محتوى المنهج للاكتساب من قبل المتربين (Criterion of learnability)

  • محك أو معيار الفائدة والثمرة أو المنفعة (Criterion of Utility)

 

وفي مقالتنا هذه نضيف إليها مجموعة أخرى من هذه المعايير والمحكات، ووفقًا لما يلي:

 

أ.محك أو معيار العالمية (Criterion of Universality):


     إنّ اتصاف المنهج التربوي بالبعد الوطني، واحتوائه على الأبعاد والمفاهيم والقضايا التربوية الوطنية أمر مفروغٌ عنه وعن أهميته، أما البعد العالمي، والتعرف على ما يرتبط بالمجتمع البشري العالمي ولو بحدوده الدنيا، هو أمر هام ومفيد أيضًا خاصة في ظل الانفتاح والتواصل والاتصال الحديث بين مختلف البلدان، فلا ينبغي للمنهج أن ينغلق ويقتصر على الحدود الجغرافية المكانية للوطن.
هذا الجانب وإن كان من غير المحكات والمعايير ذات الأولوية، إلاّ أنه معيار من المعايير التي لا بد وأن يلحظها الخبراء التربويون ومصممو ومعدو المناهج التربوية، لكي يتم تقييم وتقويم وتطوير المنهج وفقًا لها.

 

 


ب- محك أو معيار التتابع والتوالي(Criterion of relay and succession):

 

     من المعايير والمحكات التي تؤخذ في تقييم وتقويم المنهج هو معيار التتابع التوالي بين أهدافه وكفاياته، وهو  ما ينبغي اعتماده في مقارنة الأهداف أو الكفايات، أفقيًا أو عموديًا، بحيث نلحظ الترابط الذي يبغي أن يكون بين أهداف وكفايات كل مرحلة من المراحل، أو بين أهداف وكفايات نفس المجال التربوي، أو المادة العلمية.
     ومن الأسئلة المساعدة على هذا التحليل: هل أن الأهداف والكفايات نُظِّمت أو صُمِّمت ورُسمت بشكل يحفظ التسلسل المنتظم فيما بينها؟ أي هل أن هناك هدف أو كفاية لا يمكن أن تتحقق لدى المتربين قبل تحقق هدف آخر أو كفاية أخرى محددة؟ بحيث لا ينبغي أن تتقدم زمانًا على كفاية أو هدف آخر، وهذا ما يمكن أن نلحظه مثلاً في دراسة الحقبات الزمنية، أو دراسة المراحل العمرية للإنسان، أو مراحل نمو الكائنات، أو غير ذلك من التماسك والتناسق والتسلسل المنظم والمفترض، كذلك في لحلظ ما ينيغي أن يقدم لكل مرحلة من المراحل التربوية في نفس سياق المجال التربوي، أو المادة التعليمية المفترضة.

 


وقد يكون التوالي والتتالي المفترض هو قائم على أنحاء عديدة، منها:

 

  • التتابع والتوالي بالبدء من الأجزاء وصولاً إلى الكل، في موارد الاستنتاج العلمي بما يسمى الاستقراء.

  • التتابع والتوالي بالبدء من الكل وصولاً إلى الجزء، في موارد الاستنتاج العلمي بما يسمى الاستنباط.

  • التتابع والتوالي بالبدء من المحسوس وصولاً إلى المجرد.

  • التتابع والتوالي بالبدء من القريب وصولاً إلى البعيد.

  • التتابع والتوالي بالبدء من البسيط من القواعد والمعادلات والمفاهيم والقضايا العلمية والمعرفية، وصولاً إلى المعقّد منها.

  • التتابع والتوالي بالبدء من المكتسبات السابقة وصولاً إلى الجديد منها، أو من المألوف إلى المستجد.

  • التتابع والتوالي بالبدء التدريجي من الأقدم زمانًا وصولاً إلى الحاضر، أو العكس.

  • التتابع والتوالي في أمور تكوين الطبيعيات والكائنات الحية مثلاً، إنطلاقًا من المراحل الأولى على مستوى تكوين نطفة الإنسان، مرورًا بالتدرج في دورة حياته، وصولاً إلى ولادته، ثم تدرجه صعودًا في مراحل عمره.

 

     وهذه المحكات والمعايير-التي ذكرناها آنفًا، أو غيرها- تجري في كل مجال من المجالات العلمية والتربوية بما يتناسب مع خصائص هذا المجال أو ذاك، كالمجالات الأدبية، والتاريخية، والعلوم الطبيعية، ...إلخ، هذا التنظيم الطولي أو العرضي للمنهج وأهدافه وكفاياته يسري على المحتوى ومضامينه، وهذا ما يمكن أن نسميه التماسك الهندسي لتصميم المنهج.


     إنّ ما عرضناه وقدمناه من محكات ومعايير هي ما يتبانى عليها لدى عدد من الخبراء التربويين ، إلا أننا نرا أن هناك محكات ومعايير لا بد وأن نلحظها في مجال تحليل المنهاج، وتقييمها، وقد استنتجناها أو استظهرناها من خلال خبرتنا في مجال تطوير المناهج التربوية والتعليمية في العديد من المؤسسات التربوية، ولم نلحظها في أي من الككتب التي ذكرت المحكات والمهايير التي توضع في مثل هذه الموارد، وهي على الشكل الآتي: 

 


ج.محك أو معيار الشمولية (Criterion of Comprehensiveness and encompassing)


  من الأمور التي تؤخذ بعين الاعتبار عند تقييم وتقويم المنهج، والأسئلة التي لا بد وأن تطرح على مصممي المنهج، هي: إلى أي مدى يستهدف المنهج مختلف المجالات والأبعاد والساحات والميادين التربوية التي تشكل بمجملها هوية المتربي، أو بناء شخصيته بناءً شاملاً؟ بناءً يلحظ كافة الجوانب التي تبني هذه الشخصية، وتجعل منها إنسانًا؟


     فإذا كانت الفلسفة التربوية، التي ترسم ملامح وهوية المتربي، وهي الإطار المرجعي لتصميم المنهج وإعداده، والمنطلق النظري الذي ينهل منه مصممو المناهج عند إعدادهم المنهج وهندسته، فقد حددت تلك الساحات والميادين التربوية أو الأبعاد الإنسانية بما يلي: الإيمانية، الاجتماعية، العلمية، الاقتصادية، السياسية، البيئية، الوطنية، الإدارية، الصحية والجسمية، الجمالية الفنية، وإنّ المنهج معني بشموله على هذه الأبعاد، والساحات والميادين التربوية، بغض النظر عن مقدار ما يناسب كل مرحلة عمرية مقصودة بالعملية التربوية من هذه الساحات أو الميادين.

 


د.محك أو معيار التوازن (Criterion of balance)


    إن تحديد الأبعاد والساحات التربوية وفقًا لما تقدم من قبل فلاسفة التربية أو منظريها  وخبرائها والقيمين عليها، في أي مجتمع من المجتمعات، يهدف إلى صياغة الرؤية التربوية لأبناء ذاك المجتمع، أي لما ينبغي أن يكونوا عليه بعد مضي فترة من الزمن، ومن خلال العملية التربوية التي تتكفل القيام بكل ما يلزم ذلك، ويشكل المنهج التربوي قناة ضرورية ينبغي أن تتوفر لتلك العملية التربوية، حيث ينبغي أن تصنع متربيًا متوازن الهوية، أو الشخصية بلحاظ ما حددته تلك الفلسفة من أبعاد أو ساحات وميادين تربوية، ولكي لا تكون النواتج التربوية مشوّهة التكوين والبناء، كأن يكون هناك تربية متقدّمة على مستوى البناء العلمي للمتربي، ويكون هناك خلل على مستوى البناء الاجتماعي، أو البناء التربوي للمتربي، والكثير من التحديات التي نواجهها اليوم عل الصعيد الاجتماعي الأسري (مثلاً)، أو السلوك الاجتماعي والالتزام بالنظام العام، أو النظافة العامة، أو البيئة العامة، أو الجانب الصحي أو الجسمي، يعود سببه في الكثير من الأحيان إلى الخلل في البناء التربوي، حيث لم يُعطِ (المنهج) الحصة الكافية ومستوى الاهتمام المطلوب كما أعطاه للجانب العلمي والأكاديمي.


      وبهذا يقتضي على مصممي المناهج ومهندسيها ومعديها، أن يقوموا بإجراء عملية توازن كافية بين تلك الأبعاد والساحات الميادين، كما نصت عليه الفلسفة التربوية، ويجروا ما أمكن من إعطاء ك بعد من تلك أبعاد أو الساحات الجرعة الكافية  واللازمة من الاهتمام والعناية عند تحديد الأهداف، والكفايات، وما يستتبع ذلك على مستوى محتوى المنهج، وأنشطته وفعالياته التربوية.


      ولو أجرينا رسمًا بيانيًا لنواتج عملية تربوية في مؤسسة تربوية ما، وبناءً على دراسات علمية دقيقة، لوجدنا أن هذا أن التوازن على مستوى تلك النواتج فيه الخلل الكثير التي تحتاج إلى إعادة عملية توازن محكمة ودقيقة، والرسم التالي يوضح  ماذا نقصد بذلك.

 


 
حيث يظهر الخلل في العديد من الساحات أو الميادين التي كان ينبغي أن تُعطى جرعة أعلى، ومستوى من الاهتمام أكثر.

 

 

د.محك أو معيار التماسك والترابط(Criterion of Coherence and interdependence)


    في بعض الأحيان، ونتيجة لانهماك مصصمي ومهندسي المناهج ومعديها في بعض التفاصيل التقنية الجزئية للمنهج، قد يؤدي ذلك إلى حالة من التفكك وعدم الترابط الدقيق بين مكونات المنهج وعناصره، وهو ما ينبغي أن نجري عملية تحليل دقيقة، نلحظ مدى الترابط والتماسك بين الغايات العامة للمنهج، ومدى ارتباطها بالمباني والأصول أو المبادئ الكلية في الفلسفة التربوية، ثم نلحظ مدى الارتباط والتماسك بين الأهداف والغايات العامة، والأهداف الخاصة بكل مجال من المجالات التربوية من جهة من المنهج، وبينها وبين الأهداف الخاصة بكل مرحلة، ثم الانتقال في الفحص والتدقيق والتحليل إلى مدى الارتباط والتماسك ما بين الكفايات التربوية وبين الأهداف المحددة، ثم بين الكفايات من جهة وبين مواردها وموضوعاتها وأهدافها التفصيلية من جهة ثانية، بعدها يتمم التحليل، وتدقيق مدى الارتباط والتماسك والانسجام ما بين المحتوى وبين تلك الكفايات وموضوعاتها ومواردها وأهدافها التفصيلية من جهة أخرى.  وهذا ما يمكن أن نسميه بالتماسك والارتباط الهندسي لتصميم المنهج، كما يمكن أن نطلق عليه تسمية محك أو معيار التوافق والانسجام (Criterion of Compatibility) المفترض بين مكونات والعناصر البنائية الداخلية للمنهج.

 


هـ.المحك أو المعيار الزماني للمنهج (Criterion of time):


لا شك أن التوسع الكبير والهائل والمتزايد على مستوى المعارف والعلوم في عصرنا الراهن فرض على معدي المناهج ومصمميها  ومهندسيها واقعًا جديدًا، وقد يكون مربكًا في كثير من الأحيان، إذ يستدعي منهم الإجابة على السؤال التالي: أي نوعٍ من هذه المعارف والعلوم لا بد وأن تكون محصّلة من قبل المتربين، وأي مستوى من التعمّق والتوسع والاحاطة مطلوبة منه؟ وهل أنّ كل هذه العلوم والمعارف بتفاصيلها وشمولها مطلوب اكتسابها وتحققها لدى المتربي؟ خاصة أن الوقت المتاح للمتربي محدود، بل قد يُشكل الاتساع الزماني للمنهج مقارنة بحجم المعلومات والمعارف عاملَ منفّرٍ للمتربين، وتراجعًا في دافعيته التعليمية والتربوية.


      وعليه؛ استدعى الأمر أخذ موضوع المحك والمعيار الزماني للمنهج بعين الاعتبار، بحيث لا يهمل الجانب الزماني ومقدار الوقت المطلوب والمتاح لتحقق الأهداف والكفايات التربوية للمنهج لدى المتربين.


    إنّ وضع هذه المحكات والمعايير أمام مطوري المناهج ومقيميها-وما يمكن أن يتم إضافته من قبلهم عليها من محكات ومعايير أخرى نتيجة لظروفهم المحيطة، أو بناءً على الفلسفة التربوية التي ينطلقون منها، أو نتيجة لدراستهم للواقع الحالي والمأمول- يُسهم بشكلٍ دقيق وفعّال في الاتفاق على كيفية تطويرهم لهذه المناهج، أو تحديد مدى الحاجة إلى ذلك.

 


[1] -تم نشر المقالة الاولى عبر موقع مركز الابحاث والدراسات التربوية: www.esrc.org.lb  بتاريخ: 14/شباط/2023.

 

أضيف بتاريخ :2023/03/04 - آخر تحديث : 2023/03/04 - عدد قراءات المقال : 3209