Cancel Preloader
دراسات ومقالات المركز

المعلم المربي (1)

  • منذ يوم
  • 132
المعلم المربي (1)

 

المعلم المربي (1)

د. علي كريّم 
 

صحيح بأنه ليس صاحب المهنة الوحيدة الذي يخصص له عيد سنوي، ولكنه الأكثر تميّزاً في التخصيص من بين كل المهن، تكريماً وإعظاماً، وتقديراً وإجلالاً؛ ولعل الميزة الأبرز التي تجعله في هذا الموقع هي المسؤولية الملقاة على عاتقه في صناعة الأجيال الناشئة والارتقاء بها في مدارج الكمال الإنساني؛ والأمر هنا لا يقتصر على التلقين لمجموعة من المعارف والعلوم والقواعد والتطبيقات، بل إن الدور يتعدى حدود المهنة بمخرجاتها الفنية إلى بناء النماذج الإنسانية التي ستقود المجتمعات في القادم من الزمن؛ لذا قد يمارس المعلم دوره في التعليم، وقد يتميّز في أداء وظيفته المهنية، ولكن هل يدرك بأن لدوره ثقل أكبر يرتبط ببعده التربوي في تغذية الأبعاد المختلفة في شخص كل واحد من المتعلمين بين يديه؟..

 

أن تكون معلِّماً، فهذا ممكن، ولكن أن تكون مربِّياً، فالأمر يحتاج إلى إعداد ذاتي لمسؤولية مجتمعية تصدى لها عظماء التاريخ، وفي مقدمتهم الأنبياء والرسل والأولياء الصالحين، فـ "دور المعلم في المجتمع كدور الأنبياء، والأنبياء هم معلمو البشرية، إنه دور مهم وحساس للغاية ومسؤولية ثقيلة.. لأنه هو نفس دور التربية والتي هي إخراج من الظلمات إلى النور"[1]، فكيف يمكن أن يرى من يتصدى لهذا الدور بأنه مصداق لـ [المعلّم المربّي]؟..

 

لوضع الأمور في نصابها، والتركيز على فكرة صناعة نموذج [المعلّم المربّي]، سيعرض المقال - في جزءين - لبعدين من أبعاد بناء الشخصية التربوية للمعلم؛ الأول في هذا المقال، يرتبط بالبعد الذاتي الرؤيوي على مستوى النظرة والقناعات؛ والآخر في الجزء الثاني منه، يرتبط بالبعد العملي الإجرائي على مستوى الدور والمهام.

 

أولاً: في البعد الذاتي الرؤيوي

في هذا البعد تحضر جملة من النقاط المتسلسلة والمترابطة في إطار تشكيل الوعي الذاتي بالموقعية التربوية للمعلِّم، وهي الآتية:

  1. القيمة الإنسانية: فالمعلّم في سياق أداء دوره يتوجه إلى أكرم المخلوقات وأفضلها، إذ يقول الله تعالى في كتابه الكريم: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً}[2]، فعندما يعي المعلم عِظم من يتوجه إليه، يدرك أن مقامه المعنوي عظيم، وكما قال الإمام الخميني (رض): "المعلم أمين ويختلف عن باقي الأمناء لأن أمانته هي الإنسان"[3]، وهذا سيرتّب على المعلّم مسؤولية أخلاقية وإنسانية وحتى شرعية تجاه المتعلم.
     
  2. حب التعليم: بالعموم أي عامل يحب مهنته، فسوف يبرع فيها، وكذلك في التعليم، وهنا يتأكد حضور هذه النقطة بشكل أكبر، لأن الأمر سيظهر على محيا المعلم وسينعكس مباشرة على أداء وتفاعل التلميذ معه، بخلاف المهن الأخرى التي قد يحبها العامل، ولكن انعكاسها لا يظهر بالضرورة على محياه، ولا ينعكس على الآخرين.
     
  3. احتمال التأثير في التلاميذ بل اتخاذ المعلم قدوة: دائماً ما يكون كلام المعلم حجّة بالنسبة للتلميذ، وهو حاضر لأن يستشهد به أينما حلّ، فالنظرة الغالبة من التلميذ على المعلم فيها الكثير من علو الشأن والمقام، وفرصة الأخذ منه والتأثر به والاقتداء بسلوكه حاضر باستمرار ولو بعد حين؛ وهنا كم يمكن للمعلم تعزيز الثقة، وتحويل التهديد إلى فرصة، وإظهار حسن التعامل مع المواقف والتحديات الطارئة، وكل هذا كفيل بالتأثير في التلاميذ، وتربيتهم من خلال مواقف حياتية هي محل للاقتداء.
     
  4. طبيعة المرحلة العمرية واهتماماتها: إن كل مرحلة عمرية لها خصوصية من حيث القدرات والقابليات ومساحة الحضور والتفاعل والاهتمامات، فكلما كان المعلم أكثر معرفةً وإدراكاً لخصوصية كل مرحلة، كلما استطاع أن يخاطبها بلغتها ومفرداتها وبما يعنيها أكثر دون غيرها، فيستطيع هنا أن يُوجد جسر عبور بينه وبين تلامذته.
     
  5. الإحاطة الواسعة: على المعلم في علاقته بالمادة التعليمية وبالتلاميذ، أن لا تقتصر معارفه واطلاعاته حصراً بمادته، فبقدر ما يشعر التلميذ بأن المعلّم مطّلع ومواكب ومهتم بقضايا تتجاوز حدود المادة، بقدر ما يهيئ نفسه لقبول النصح والإرشاد والتوجيه منه أكثر من غيره، بل وقد يلجأ إليه في استشارة حول خصوصية أمر ما تتعلق به نفسه، ويبحث عن من يمكن أن يرشده إلى الصواب.
     
  6. الموازنة بين العلم والأدب: في الكثير من الأحيان والتجارب، يعتقد المعلِّمون أن تميّزهم العلمي هو الذي سيلقي بثقله في نفس التلميذ، وهذا صحيح، ولكن ليس هذا فقط، فحسن الخلق والاحترام والتقدير والتفهم والمداراة وعموم السمات الأخلاقية الحسنة، ستفتح نافذة إلى قلب التلميذ، وسيتهيّأ معها للدرس أكثر فأكثر، انجذاباً لشخص المعلم المؤدب بالسمات الأخلاقية الحاضرة في تعامله مع التلميذ بمعزل عن خصوصية المادة التعليمية، وكما يقال: كثير من الأدب مع قليل من العلم خير من كثير من العلم مع قليل من الأدب. وكما في نصيحة لأحد المعلمين: اجعل علمك ملحاً وأدبك دقيقاً، يعني اجعل نسبة العلم إلى الأدب كنسبة الملح إلى الدقيق في الطعام، واللبيب من الإشارة يفهم.
     
  7.  الإيمان بالفروقات والكل يستطيع أن يعطي: فالاختلاف بين بني البشر من سنن الله في الخلق: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ}[4]، فالتعامل مع كل تلميذ بخلفية الاختلاف عن الآخر، ستخلق لديه الثقة بأنه يمتلك مقداراً من القدرة، ولكن ليس بالضرورة أن تكون كما الآخر، أو أن أقارنه دوماً بأقرانه من التلاميذ، بل يقارن بقدرته على العطاء لخلق الحافزية لديه.
     
  8. تعدد الجوانب في شخص كل متعلم: مع الإيمان بالفروقات بين تلميذ وآخر، لا بد وأن أؤمن كمعلّم بأن شخصية التلميذ نفسه لها أكثر من جانب، ومستوى الإحاطة عند المعلم بالكثير من قضايا واهتمامات التلاميذ، ستفتح له الباب لاكتشاف اهتمامات وأبعاد حاضرة في كل شخصية؛ فعلى الرغم من حضور التلميذ إلى المدرسة للتعلم، ولكنه في نفس الوقت يحب الرياضة والتكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي والتفكير بالجنس الآخر وحب الاستطلاع والتحدي والمغامرة و... وغيرها من القضايا والاهتمامات الحياتية، والتي يبحث في كثير من الأحيان عن من يمكن أن يرشده وينصحه فيها.
     
  9. مشروع المجتمع القادم: في الكثير من محطات الحياة، وأمام تحديات العيش ومسؤولية التغيير، لا بد وأن تحضر في ذهن المعلِّم دوماً أن تلاميذه الذين يعلمهم هم بُناة المستقبل وأمل التغيير المرتقب؛ ولكم افتخر معلِّم بتلميذٍ عنده حال تميّزه وإبداعه وتبوّئه مقامات ومسؤوليات ومواقع، دنيوية كانت أو أخروية، ليشعر معها بعظم الدور الذي كان يؤديه، والذي قد يكون له نصيب مما زرعه في تلاميذه.
     
  10. الرسالة جزء من مشروع المواجهة: في معركة الثبات والتمسك بالأصالة والهوية والانتماء، وفي ظل مختلف أشكال التهديد والمواجهة، من الحروب العسكرية إلى الحروب الناعمة، وما بينهما من مستويات في الاستهداف والضرب للفكر والعقل والإيمان والعلم والمعرفة والثقافة والقدرة والثقة ... إلخ، يحضر دور المعلم ليكرّس من خلال دوره الجهوزية الدائمة لكل المؤامرات التي تستهدف مجتمعنا بمختلف ساحاته؛ فكما المعركة تحضر في ساحة القتال العسكري، فهي تحضر أيضاً في السياسة والاقتصاد والإعلام والأدب والفن وغيرها.

 

البناء للبعد الذاتي الرؤيوي للمعلم مطلوب كمقدمة للبعد الإجرائي العملي، وهذا ما سيتناوله المقال في جزئه الثاني إن شاء الله..

 


[1] الخميني، روح الله: التربية والمجتمع، بيروت، مراكز الإمام الخميني الثقافية، ط 1، 2000، ص: 77

[2] سورة الإسراء المباركة، الآية 70.

[3] الخميني، روح الله: مصدر سابق، ص: 76

[4] سورة هود المباركة، الآية 118.

آخر تحديث : 2025-03-08
الكلمات المفتاحية للمقال:
مشاركه في:

تعليقات

اترك تعليقك هنا