Cancel Preloader
ندوات المركز

التربية الجهادية: صراع الحق والباطل

  • منذ 3 أيام
  • 44
التربية الجهادية: صراع الحق والباطل

 

نظّم مركز الأبحاث والدراسات التربوية الملتقى التربوي رقم 7 للعام 2024 وذلك عصر نهار الثلاثاء بتاريخ 10-9-2024 م، تحت عنوان [التربية الجهادية: صراع الحق والباطل] (قدمه الدكتور علي الرضا فارس).

  • المداخلة رقم 1: السنن القرآنية في صراع الحق والباطل (السيد علي الموسوي/ لبنان)
  • المداخلة رقم 2: القيم التربوية في قصص الصراع بين الحق والباطل (الوزير د. مصطفى بيرم/ لبنان)

 

التّقديم للملتقى:

بدأ الملتقى بمقدمة للدكتور علي الرضا فارس، نصّها الآتي:

بسم الله الرحمن الرحيم "وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8)". صدق الله العلي العظيم. السنن الإلهية هي إحقاق الحق وإبطال الباطل، ولو وقف كل طغاة العالم في وجه هذا الحق ومع طريق هذا الباطل.

وفي هذا السياق يشير سماحة القائد السيد علي الخامنئي (حفظه الله)، إلى أن المعركة بين جبهة الحق الحسينية، وجبهة الباطل، جبهة الظلم والجور، هي معركة مستمرّة، فقد كانت هاتان الجبهتان موجودتين في عصره، وبعده، وستظلان موجودتين للأبد. وعليه من الضروري على كل فرد وعلى كل أمة أن تراجع حساباتها لتتيقن بأنها تقف في محور طريق الحق مقابل محور الباطل، لأننا سنُسأل يوم القيامة أي الخيارات اخترنا "يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ، إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ".

فنحن نعيش اليوم في عالم بلا قانون، حيث يقول زيجمونت باومان في كتابه [الأزمنة السائلة: العيش في زمن اللايقين]: "إن العالم مكانًا بلا قانون، فأصحاب السلطة يمكنهم أن يتجاهلوا القانون الدولي ويلتفوا عليه، فالقوة هي الحق".

والتربية الجهادية هي التربية على الحق في مواجهة الباطل، هي إعداد تربوي ثقافي معرفي وأخلاقي، عملاً بالآية الكريمة بسم الله الرحمن الرحيم "وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ"، فهذه إحدى مصاديق إعداد القوة في جانبها الروحي، في سبيل تعزيز طريق الحق وإضعاف جبهة الباطل.

 

المداخلة رقم 1: (السيد علي الموسوي/ لبنان)

بدأ السيد الموسوي كلامه بتوجيه التحية لروح من سميّت القاعة باسمه الشيخ مصطفى قصير، بعدها قدّم مداخلته وجاءت وفق الآتي: لعل الحديث عن فكرة الحق والباطل في القرآن الكريم من أكثر الموضوعات التي عولجت في أبحاث مختلفة ولفظ (الحق) ورد في القرآن الكريم في ثلاثة وثمانين ومائتي (283) موضع، جاء في أكثرها بصيغة الاسم، نحو قوله تعالى: {إنا أرسلناك بالحق} (البقرة:119). وجاء في اثنين وعشرين موضعاً بصيغة الفعل، من ذلك قوله تعالى: {وحق عليهم القول} (فصلت:25).

وأعظم ما يمكن أن يُقال في هذه الكلمة إنها أُطلقت على الواجب تعالى: جاء بمعنى الله سبحانه، من ذلك قوله تعالى: {ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض}.، وجاء بمعنى القرآن الكريم، من ذلك قوله تعالى: {فقد كذبوا بالحق لما جاءهم}، وجاء بمعنى الإسلام، من ذلك قوله تعالى: {وقل جاء الحق}، ونحوه قوله سبحانه: {فاحكم بيننا بالحق}، وجاء بمعنى التوحيد، من ذلك قوله تعالى: {فعلموا أن الحق لله}، وجاء بمعنى الصدق، من ذلك قوله تعالى: {قوله الحق}

بينما وردت كلمة الباطل فى القرآن 21 مرة،  ومن الطبيعي أنه على أساس نظرية الجري والتطبيق القرآني تكون هذه من المصاديق حتى لا نقع في الخلط بين المصداق والمفهوم.

فغلبة الحق على الباطل كانت حتى في اللفظ القرآني، ولأن البحث حتى يكون ذا فائدة ويقدّم جديدًا يضاف للموجود، ولعدم إمكان الإحاطة بكل ما هو موجود مما ورد في الآيات، اخترت آيات محددة هي من وجهة نظري آيات مفتاحية لتقديم فكرة الحق والباطل في القرآن الكريم.

 

أصل (الحق) لغة: المطابقة والموافقة، والباطل المخالفة وعدم المطابقة ولكن لماذا؟

على أساس التقسيم الموجود في علمي الفلسفة وأصول الفقه من العقل إلى نظري وعملي، والنظري البحث فيها عما هو موجود والبحث في العقل العملي عما ينبغي ولا ينبغي، يمكننا تقسيم البحث إلى الحق والباطل في عالم الوجود والحق والباطل في التاريخ والمجتمع بمعنى ما ينبغي وما لا ينبغي.

ولأن البحث هنا عنوانه ومفصله التربية الجهادية، فما سوف اتعرض له هو خصوص الحق والباطل في العقل العملي أي من حيث ما ينبغي وما لا ينبغي.

 

وهذا ما تبينه الآيات لنا فان غاية الفعل الالهي هو الحق في العالمين:

1ـ فالحق هو غاية الفعل الالهي في نشأة الوجود: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَـٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} ﴿١٩١ آل عمران﴾.

{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَٰلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} ﴿٢٧ ص﴾.

2ـ {والحق هو غاية الفعل الالهي في التاريخ والمجتمع والاختيار الانساني: لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} ﴿٨ الأنفال﴾.

{وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ} ﴿٧ الأنفال﴾.

 

الآيات المفتاحية لتقديم فكرة الحق والباطل في القرآن الكريم:

أولًا: إن خلقة الإنسان في الأساس هي صراع الحق والباطل، وفلسفة الوجود الإنساني هي فلسفة الصراع بين الحق والباطل، وتحقق الإنسان الكامل هو نتيجة صراع بين الحق والباطل.

نبدأ مع الحادثة الأولى في خلقة هذا الانسان، وقصة الأمر بالسجود لمن كان محلاً للخطاب الإلهي الملائكة ومعهم بعض من الجن وهو إبليس، وعندما تحقق الرفض والامتناع عن الانصياع لهذا الامر الإلهي، تأتي فكرة الحق لترد على المقولة الإبليسية: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} فهل فعلاً كانت المشكلة في إبليس أنه رأي نفسه خيرًا من آدم، أو المشكلة أعمق من ذلك، المشكلة في باطل وقع فيه إبليس خرج فيه عن الحق وليس في الجنة إلا الحق فأي باطل هو. تقول الآية: {قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ} باختصار ما يكون لك أي ليس من حقك، وهذا أمر تتجاوز أنت فيه الحق إلى الباطل.

وأصر إبليس على باطله، وكانت الحياة صراعًا: {قَالَ أَنظِرْنِي إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ (15) قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17) قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَّدْحُورًا  لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ}.

ثانيًا: وأعظم مشهد قرآني يصفه القرآن للحق هو الآية 18 من سورة الأنبياء المباركة: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ}.

هذا الآية تتحدث عن عناصر ثلاث في عملية الصراع:

1ـ امتلاك الحق.

2ـ امتلاك وسيلة: نقذف الحق على الباطل: يقول العلامة مطهري: (فكأننا نصنع من الحق كمثل الرصاصة نطلقها على دماغ الباطل فيطيش ويتناثر).

3ـ القدرة على اصابته في مقتل: (فيدمغه) جراحة دامغة، هي التي تصيب الدماغ.

وعودًا على البدء الاول للخلقة وقلنا إن هذه الحياة تُختصر بهذا الصراع، يسبق الآية التي تحدث عن قذف الحق على الباطل ليقتله يقول تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ (17) }.

ثالثًا: صراع الحق مع الباطل: قال تعالى: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ} ﴿١٧ الرعد﴾

تشبيه الصراع بين الحق والباطل بالصراع بين الماء والزبد، والبقاء ليس للزبد بل للشيء النافع والمفيد.

ـ الباطل أمر ظاهري والحق أمر أصيل.

ـ الباطل طفيلي والحق أصيل: الباطل يستغل قوة الحق ليستفيد منها في الهيمنة والتحكم (الحسين قتل بسيف جده)... اجتمع ثلاثون ألفا يتقربون الى الله بقتل الحسين.

ـ إن الغلبة في الخاتمة سوف تكون للحق على الباطل.. {ليستخلفنهم...  وأنتم الأعلون... }.

 رابعًاـ تلبيس الحق بالباطل وكتمانه: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ}.

اللبس بفتح اللام هو التغطية، أي ستر الحق بالباطل وذلك بإلقاء الشبهة و التمويه، أي تظهرون الحق في صورة الباطل.

وهذا التلبس هو أساس فعل إبليس: يقول أمير المؤمنين (ع): «فَلَوْ أَنَّ الْبَاطِلَ خَلَصَ مِنْ مِزَاجِ الْحَقِّ لَمْ يَخْفَ عَلَى الْمُرْتَادِينَ ، وَلَوْ أَنَّ الْحقَّ خَلَصَ مِنْ لَبْسِ البَاطِلِ انْقَطَعَتْ عَنْهُ أَلْسُنُ الْمُعَانِدِينَ، وَلكِن يُؤْخَذُ مِنْ هذَا ضِغْثٌ، وَمِنْ هذَا ضِغْثٌ، فَيُمْزَجَانِ فَهُنَالِكَ يَسْتَوْلي الشَّيْطَانُ عَلَى أَوْلِيَائِهِ، وَيَنْجُو الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَ اللهِ الْحُسْنَى».

خامسًا:: صراع الحق والباطل أوسع مما نتوقعه في الخارج بل هو في النفس الإنسانية، فكما في مملكة الوجود يدور الصراع كذلك في مملكة النفس، ومملكة الباطن جنود العقل والجهل، جنود الرحمن وجنود الشيطان، عقل الرحمن وعقل الشيطان، بين العقل والشهوة فحيث تكون الغلبة للشهوة يكون العقل أسيرًا وقد كان من حقه أن يكون أميرًا.

سادسًا:  الختم بانتصار الحق:

{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا  يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا}.

{وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}.

سابعًا، معايير الحق والباطل: ثنائية العقل والنص، وارتباطهما:

لما كان القرآن هو الحق، قال تعالى {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}. والروايات تمثل كلام من هم مدار الحق فقد ورد عن النبي (ص) «علي مع الحق والقرآن والحق والقرآن مع علي ولن يفترقا حتى يَرِدا علي الحوض». وبامتلاكنا بوضوح لهذين المفهومين، نستطيع تطبيقهما بعد ذلك على مصاديقهما الخارجية، فبدون المعرفة النظرية الدقيقة، يتعسر التمييز الصائب في الخارج، لذا نقف وقفةً قصيرةً لبيان هذين المفهومين من الجهة النظرية. مفهوما الحق والباطل

ـ ارتباط العقل كأداة بمعرفة الحق والباطل: العقل يدرك حسن الحق وقبح الباطل، وبالتالي فالحقانية والبطلانية حقيقتان مستقلتان، والعقل يدرك الحقانية فيحصل الميل والجذب، إحقاقها تكوينًا بناءً للانسجام والتناسب بين أصالة الإدراك العقلي وحقانية الحق وكذلك العقل يدرك البطلانية حيث يحصل الدفع والطرد للباطل بالتكوين وذلك بناء للمنافرة بين أصالة الإدراك العقلي وبطلانية الباطل، وبالتالي وفقًا لهذا يكون حسن الحق ذاتيًا وقبح الباطل ذاتيًا والعقل يدرك الحسن ويدرك القبح وكذلك الأمر بالنسبة للعدل والظلم حيث إن مبدأ العدل الإلهي يرتبط بالنظرة لأصالة العقل وأصالة الحسن والقبح.

 

نقاط أساس ترتبط بالاستفادة من فكرة الحق  والباطل:

أ. التمييز بينهما عند الشبهات:

يختلط أمر الحقّ والباطل ويصبح التمييز بينهما أمراً يحتاج إلى الوعي والمعرفة التامّة بهما خصوصاً في موارد الشبهة، فيعجز الكثيرون عن تشخيص ومعرفة الحقّ ولا يعلمون كيفيّة الوصول إلى الحقيقة، وأولى الخطوات التي ذكرها الإمام (ع) هي ما جاء في جوابه عن معنى قوله: «أَمَا إِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ إِلاَّ أَرْبَعُ أَصَابِعَ» حيث جمع بين أصابعه ووضعه بين أُذنه وعينه، ثمّ قال مجيباً: «الْبَاطِلُ أَنْ تَقُولَ سَمِعْتُ، وَالْحَقُّ أَنْ تَقُولَ رَأَيْتُ».

دخل الحارث بن حوط الليثي على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) فقال: يا أمير المؤمنين، ما أرى طلحة والزبير وعائشة احتجوا إلا على حق؟ فقال: «يا حارث، إنك إن نظرت تحتك ولم تنظر فوقك جزت عن الحق؛ إن الحق والباطل لا يعرفان بالناس، ولكن اعرف الحق باتباع من اتبعه، والباطل باجتناب من اجتنبه».

قال: فهلا أكون كعبد الله بن عمر وسعد بن مالك؟ فقال أمير المؤمنين (ع): «إن عبد الله بن عمر وسعد خذلا الحق ولم ينصرا الباطل».

ب. العمل بالحقّ والالتزام به:

فلا يكفي في المقام أن يدرك الإنسان الحقّ ويعلم أين هو، بل لا بدّ له من العمل به والالتزام بلوازمه مهما كلّف الأمر: «إِنَّ أَفْضَلَ النَّاسِ عِنْدَ اللهِ مَنْ كَانَ الْعَمَلُ بِالْحَقِّ أَحَبَّ إِلَيْهِ، وَإِنْ نَقَصَهُ وَكَرَثَهُ (زاده غمّاً)، مِنَ الْبَاطِلِ وَإِنْ جَرَّ إِلَيْهِ فَائِدَةً وَزَادَهُ».

فالحقّ ليس شعاراً نرفعه، بل عملاً نسلكه ونتبعه ونسعى لتطبيقه، ولعلّ ما أصاب الخوارج ومعاوية خير شاهد على أمرين: أوّلهما: التباس الحقّ، وثانيهما: خذلانه، ولذا يقول (ع) فيهم: «لاَ تَقْتُلُوا الْخَوَارِجَ بَعْدِي، فَلَيْسَ مَنْ طَلَبَ الْحَقَّ فَأَخْطَأَهُ (أي الخوارج)، كَمَنْ طَلَبَ الْبَاطِلَ فَأَدْرَكَهُ (أي معاوية وأصحابه)».

 

التربية الجهادية في اتّباع الحق ورفض الباطل:

في المنهج القرآنيّ، إنّ قوّة الإيمان هي أعظم سلاح يملكه أصحاب منطق الحقّ لما في ذلك من الأثر الأفعل في عمليّة المواجهة مع الباطل وحسم الصراع والتحدّي بينهما.

وصاحب البصيرة يدرك بأنّ هذه المواجهة لا تحتاج فقط إلى عوامل ومقدّرات ماديّة، بل تحتاج أيضاً إلى إيمان وعزيمة وإرادة صلبة. وقد رسم الإمام (ع) وبيَّن العناصر اللازمة والطرق الموصلة لنصرة الحقّ ومنها:

1. التمسّك بالحقّ والاجتماع حوله: فأصحاب الحقّ يجب أن يمضوا قدماً في المواجهة متمسّكين بما يملكونه من الحقّ، ولا يتفرّقوا عن حقّهم، وإلّا غلبهم أهل الباطل: «وَإِنِّي وَاللهِ لأظُنُّ هؤُلاءِ القَوْمَ سَيُدَالُونَ مِنْكُمْ بِاجْتِماعِهمْ عَلَى بَاطِلِهمْ، وَتَفَرُّقِكُمْ عَنْ حَقِّكُمْ، وَبِمَعْصِيَتِكُمْ إِمَامَكُمْ في الحَقِّ، وَطَاعَتِهِمْ إِمَامَهُمْ في البَاطِلِ».

وعن دور هذه العزيمة والإرادة في نصرة الحقّ يقول (ع): «وَلاَ يُدْرَكُ الْحَقُّ إِلاَ بِالْجِدِّ».

ولأنّ الإمام عليّ (ع) كان من الذين خاضوا غمار هذه المواجهة، فقد كان النموذج الأمثل في التمسّك بالحقّ وعدم الحياد عنه مهما كانت الظروف والأسباب، ولم يمنعه أيّ مانع من البقاء إلى جانب الحقّ، بل يعتقد أن كل الخلافة وشؤونها ليس بشيء إلا إذا كانت طريقًا لإحقاق الحق حيث يقول: «والله لَهِيَ أَحَبُّ إِليَّ من إِمرتكم، إِلاّ أَن أُقيم حقّاً، أَو أَدفع باطلاً».

2. العمل على اجتثاث الباطل: كرّس الإمام عليّ (ع) في هذه الحياة منهج المواجهة مع الباطل حينما أكّد على الاستماتة والعمل والسعي الدؤوب والإصرار على اجتثاث جذور الباطل وقد عبّر عن ذلك بقوله: «وَلكِنِّي أَضْرِبُ بِالمُقْبِلِ إِلَى الحَقِّ المُدْبِرَ عَنْهُ، وَبِالسَّامِعِ المُطِيعِ العَاصِيَ المُريبَ أَبَداً، حَتَّى يَأْتِيَ عَلَيَّ يَوْمِي».

وقال (ع): «وَايْمُ اللهِ، لأبْقُرَنَّ الْبَاطِلَ حَتَّى أُخْرِجَ الْحَقَّ مِنْ خَاصِرَتِهِ».

3. الصبر والثبات في المواجهة إن الوقوف إلى جانب الحقّ يحتاج إلى الصبر والثبات؛ لأنّ في ذلك مقارعة لجبهة عريضة من أنصار الباطل، ولعلّهم يشكّلون الكثرة؛ لأنّ التجربة التاريخيّة تفيد بأنّ أهل الحقّ دائماً هم القلّة، وقد تعترض أهل الحقّ في المواجهة مشاكل متعددة وكثيرة ومنها الشهادة في سبيل الله تعالى. من هنا، فإنّ الصبر عنصر لازم وضروريّ للثبات في هذه المواجهة، ولعلّ مواجهة الإمام (ع) للناكثين تختزن هذه المعاناة والتحمّل والصبر الذي أبداه، وفي معرض حديثه عن الناكثين لبيعته نتبيَّن بوضوح ثباته في المواجهة حيث يقول (ع): «فَإِنْ أَبَوْا أَعْطَيْتُهُمْ حَدَّ السَّيْفِ، وَكَفَى بِهِ شَافِياً مِنَ البَاطِلِ، وَنَاصَراً لِلْحَقِّ».

وحول رأيه في قلّة أصحاب الحقّ يقول (ع): «وَاعْلَمُوا رَحِمَكُمُ اللهُ أَنَّكُمْ فِي زَمَان الْقَائِلُ فِيهِ بالْحَقِّ قَلِيلٌ، وَاللِّسَانُ عَنِ الصِّدْقِ كَلِيلٌ، وَاللاَّزِمُ لِلْحَقَّ ذَلِيلٌ».

ومن كلام له (ع) لأصحابه ليلة الهرير بصفّين: «فَصَمْداً صَمْداً، حَتَّى يَنْجَلِيَ لَكُمْ عَمُودُ الْحَقِّ».

4. عدم نسيان الآخرة: فإنّ التعلّق بالدنيا من أهم الأسباب التي تدفع بالإنسان نحو مواجهة الحقّ، وبالعكس فإنّ تذكّر الآخرة يجعله في طريق الحقّ والثبات عليه، ويعطيه القوّة والإرادة. يقول (ع) في حديثه عن واحدٍ من أبرز مصاديق أهل الباطل (عمرو بن العاص): «أَمَا واللهِ إِنِّي لَـيَمْنَعُنِي مِنَ اللَّعِبِ ذِكْرُ الْموْتِ، وَإِنَّهُ لَيَمْنَعُهُ مِنْ قَوْلِ الْحَقِّ نِسْيَانُ الآخِرَةِ».

5. الوعي والبصيرة إنّ المشكلة التي تعترض الإنسان غالباً هي خطأه في تشخيص الباطل واختياره على الحقّ، وانتخاب العدوّ بدل الصديق، وطريق الضلال بدل طريق الهداية، وهنا يحتاج الإنسان إلى بصر وبصيرة قويّة، ووضوح رؤية، ومن خلال قوّة العقل يستطيع الإنسان إدراك الحقائق بقدر كاف، ولكي يواجه الباطل لا بدّ له من امتلاك بصيرة العقل والوضوح في الرؤية، فبين الحقّ والباطل كما قال (ع): أربع أصابع، لذا يحتاج المرء عند خفاء الحقّ إلى إعمال الوعي والبصيرة لتبيانه، «وَإِنَّهُ سَيَأْتي عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِي زَمَانٌ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ أَخْفَى مِنَ الْحَقِّ، وَلاَ أَظْهَرَ مِنَ الْبَاطِلِ».

وقال (ع): «وَلاَ يَحْمِلُ هذَا الْعَلَمَ إِلاَّ أَهْلُ الْبَصَرِ والصَّبْرِ وَالْعِلْمِ بِمَوَاضِعِ الْحَقِّ».

 

المداخلة رقم 2: (الوزير د. مصطفى بيرم/ لبنان)

في مداخلته تحدث الوزير بيرم بالآتي: واقعًا نحن في زمن يُعتبر في خضم صناعة التاريخ وفي خضم السنن الإلهية التي تفعلت بشكل كبير، وبالتالي نحن في لحظة تاريخية مفصلية تجعلنا نتساءل أين نتموضع نحن كجماعة؟ جماعة فيها الإيلاف الحسيني إذا صح التعبير، أي أننا نجتمع على قيمة هامة جدًا فعلينا أن نعرف أين يجب أن نتموضع اليوم، إذا كنا نتكلم عن قصص الجهاد والتربية الجهادية، فأريد الإنطلاق من تنظير يقول ما هو المفهوم الجديد العميق للتشيع؟ بما هو أكبر من التمذهب، بما هو قيمة إنسانية هامة جدًا، وأين نتموضع حاليًا في التغيير التاريخي والصيرورة التي تحصل في هذا العالم التي نحن في داخلها الآن؟

واقعًا أنطلق من روايتين، لتأصيل ما أريد قوله، الرواية الأولى أن الحبيب المصطفى (ص) دخل إلى المسجد، فوجد شابًا صحابيًا رضوان الله عليه اسمه حارثة، فيسأله النبي (ص) كيف أصبحت يا حارثة؟ قال، أصبحت موقنًا يا رسول الله (ص)، وهذه كلمة كبيرة. فقال له الرسول (ص) وما علامة يقينك؟ إن لكل يقين حقيقة، ما حقيقة يقينك وما حقيقة إيمانك؟ قال يا رسول الله (ص) بِتُّ وأنني أرقُبُ الله في عرشه، وأنني أنظر إلى أهل الجنة وكأنهم منعمون فأتنعم معهم، وأنظر إلى أهل النار يعذبون فأنا أتعذب معهم، أعيش بين خوف ورجاء. فكانت ردة فعل رائعة من الحبيب (ص) وقال له: «عبدٌ نوّر الله قلبه بالإيمان، أُثبت على ما أنت عليه، وإلزم ما أنت عليه يا حارثة». ثم طرح عليه النبي (ص) سؤال بعد أن أقرّ حاله وعرفانه وهذا الشهود الذي وصل إليه، فقال له هل لك حاجة؟ هنا تظهر التربية الجهادية. قال له نعم يا رسول الله، ادعوا لي بالشهادة. تقول الرواية دعى رسول الله (ص) له بالشهادة، وفي أول غزوة تلت تلك الحادثة كان من الشهداء; هذه رواية أولى.

أما الرواية الثانية، فهي أعمق، وهي تساعدنا على تأصيل الفكرة، وتساعدنا على تظهير، أين نتموضع اليوم نحن في تموضعنا الحضاري في الزمن السيال للبشرية؟ الرواية موجودة بأمال الشيخ الصدوق عن الإمام الباقر (ع) عن السيدة أم سلمة (رضوان الله عليها) تقول: قال لي رسول الله (ص) يا أم سلمة لا يدخلنّ عليّ أحد، أريد أن اختلي بنفسي، فقالت نعم يا رسول الله، وهمّت بإقفال الباب، وإذ يدخل الإمام الحسين (ع) وكان طفلاً، واقتربت لتقول للرسول (ص) بأن الحسين (ع) قد دخل عنوةً، فوجدته جالسا على صدر النبي (ص)، ونظرت إلى وجه النبي (ص) وكان يبكي، وفي يده شيء يحركه كالمعجون. فقالت له لمذا تبكي يا رسول الله (ص)، فقال أخبرني رب العزة، بأن ولدي هذا سيُقتل، في أرض هذه تربتها، أعطانيها جبرائيل، ضعيها عندك يا أم سلمة، فإذا تحولت دمًا عبيطًا فاعلمي أن ولدي هذا قد استُشهد. فقالت له يا رسول الله (ص)، ادعو الله أن يدفع عنه ذلك، أنت سيد المخلوقات أشرف خلق الله مستجاب الدعوة، قال قد فعلت يا أم سلمة. لكن أتى الجواب الإلهي وكأنه لسان الحال يقول له الله تعالى لن أستجيب لك لأن الحسين (ع) له باستشهاده ثلاثة أشياء: أوّلها، أنّ له مقام عند الله لا يصل إليه أحد في هذه الشهادة. ثانيها، وله شيعة فيشفَعون، أو يُشفَّعون فيشفَعون، وهنا مقام الشفاعة مقام كبير جدًا، لأنه متصل بأعلى مقامات النبي محمد (ص) تحديدًا {وَلَسَوفَ يُعطِيكَ رَبُّكَ فَتَرضَى} (الضحى، 5)، فكل الناس يوم القيامة مذهولون عن أنفسهم، كلهم ينادي يا رب نفسي يا رب نفسي، إلا رجل واحد ينادي حبًا وكرمًا وإيثارًا يا ربي أمتي يا ربي أمتي، فيأتيه جواب الله تعالى قائلاً يا محمد أبشر إليك رحمتي إليك رحمتي، فقد نال مقام الشفاعة. ثالثها، ومن ذريته قائم آل محمد (عج).

انطلقنا من حارثة، وما علامة يقينك؟ ختمت بالجهاد والشهادة، هنا يظهر التأصيل التربوي، التربية الجهادية المنطلقة من تزكية نفس ومن الوعي والبصيرة، وهذين المفهومين هما ركنين أساسيين، لأن الله تعالى عندما وصف مجموعة من الأنبياء قال {أُولِي الأَيدِي وَالأَبصَار، إنَّا أَخلَصنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكرَى الدَّارِ} (ص، 44 و45). أولي الأيدي، تعدد مصاديق القوة، والأبصار تعدد مصادق البصيرة والوعي، فكما أسلفنا هما ركنين أساسيين لاقتدار الأمة.

 

والآن نطرح السؤال الآتي ما هو التشيّع؟ من أين ننطلق؟

لقد ركّز الله تعالى لهُ شيعَةٌ، إذن الجماعة هي الشيعة، والشيعة هم الأتباع.

ولكن له مفهوم أعمق، فبعض الباحثين يقولون التشيّع له معنى عميق جدًا. فمن هو المتشيِّع؟ قال الذي شيّع نفسه قربانًا إلى الله تعالى ومن أجل الجماعة ومن أجل الأمة ومن أجل الناس، فكل شيء في سبيل الله هو في سبيل الناس، في سبيل الإنسان، {وَمَا لَكُم لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبيلِ اللهِ والمُستَضعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالوِلدَانِ} (النساء،75)، فالهدف هو حماية الجماعة والناس والإنسان، لماذا حماية الإنسان؟ لأنه {مَن قَتَلَ نَفسًا بِغَيرِ نَفسٍ أَو فَسَادٍ فِي الأَرضِ فَكَأنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَن أَحيَاهَا فَكَأنَّمَا أَحيَا النَّاسَ جَمِيعًا} (المائدة، 32)، فقيمة الفرد في المدرسة الإسلامية تساوي الإنسانية جمعاء. والسيد المسيح (ع) يقول: «أعظم بذلٍ أن تبذل نفسك من أجل الآخرين».

وهناك معنىً آخر، لأنّه شيّع نفسه من أجل الحق، فأصبح مشاعًا، لم يعد ذاتيًا، كرم العطاء عنده جعله بحالة لم يعد يمتلك نفسه، بل أصبح ملكًا للأمّة، فأصبح مشاعًا، أي إن التشيّع في خدمة الإنسانية جمعاء. والآن السؤال ما هي علاقته بمقام الشفاعة؟ رسول الله (ص) نال مقام الشفاعة بسبب كرمه ورحمته وعدم وجود الأنا لديه، فكما قلنا يوم القيامة كلٌ ينادي يا ربي نفسي، إلا الرسول محمد (ص) ينادي يا ربي أمتي، فنال مقام الشفاعة لأنّه متشيّع، حيث شيّع وشايع نفسه من أجل الآخرين، ولهذا نال مقام الشفاعة.

ومقام الشفاعة مرتبط بالكرم الإلهي، ونحن اليوم نكرِّس صفة حضارية هامة جدًا منذ معركة طوفان الأقصى، حيث أن مستوى الكرم بالعطاء وتحديدًا عطاء الشهادة، هو أعلى من أي مرحلة أخرى، فتحوّل مجتمعنا الآن لمجتمع واهب، حيث إن ثمن أنفسكم الجنة، فلا تبيعوها بأقلّ من ذلك {إنَّ اللهَ اشتَرَى مِنَ المُؤمِنينَ أَنفُسَهُم} (التوبة، 111)، فهذه المنظومة الفكرية تجعلنا متموضعين هنا.

فالآن فهمنا المقصد، وفهمنا حقيقة المصطلح وماهيته، وبقي أن نحدد من أين منطلقنا وإلى أين مآلنا؟، رحم الله من عرف من أين؟ وفي أين؟ وإلى أين؟. منطلقنا من صدر محمد (ص)، حيث كان يجلس الحسين (ع). وما هو صدر محمد؟ {لَو أَنزَلنَا هَذَا القُرآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَايتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِن خَشيَةِ الله} (الحشر،21)، الجبل لا يستطيع أن يحمل القرآن. من الذي حمل القرآن؟ قلب محمد (ص)، {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِين، عَلى قَلبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنذِرِين} (الشعراء، 193 و194) ، فقلب محمد (ص) هو الحاوي للقرآن، حيث جمع الحكمة النظرية، وسلوكه الأسوة، فتحول إلى حكمة عملية، فاجتمعت فيه وفي شخصه الأسوة الكاملة.

إذا كان الله تعالى يقول للأنبياء عن النبي إبراهيم (عليه السلام) {لَقد كَانَ لَكُم أُسوَةٌ حَسَنَةٌ في إبراهيم} (الممتحنة، 4)، ولكن عندما وصل إلى محمد (ص) قال {لَقَد كَانَ لَكُم فِي رَسُولُ اللهِ أُسوَةٌ حَسَنَة} (الأحزاب، 21)، فقدّم الرسول (ص) على الأسوة، فكان المصداق الأبرز للأسوة الحسنة. وإذ قال موسى (ع) {رَبِّ اشرَح لِي صَدرِي} (طه، 25)، قال الله تعالى للنبي محمد (ص) {أَلَم نَشرَح لَكَ صَدرَك} (الشرح، 1)، وإذ قال إبراهيم (ع) {وَاجعَل لِّي لِسَانَ صِدقٍ فِي الآخِرِينَ} (الشعراء، 84)، قال الله تعالى للنبي محمد (ص) {وَرَفَعنَا لَكَ ذِكرَك} (الشرح، 4)، فرسول الله (ص) قمة العرفان الذي لا يصل إليه أحد.

إذن مبتدأنا من عند محمد (ص) من صدر محمد (ص) من حيث انطلق الحسين (ع) الذي رفع راية محمد (ص) الذي يمثّل خلاصة تعاليم الأنبياء (ع)، التي وصلت إلى اللحظة الحرجة في أنه سيتسيّد إبليس عبر شخصية يزيد، ليُظهر بأن المشروع الإلهي ومشروع الخلافة فاشل، فهو يجب أن يكون الخليفة، بدليل ما مارسه من بطش وإرهاب، ليأخذ البيعة من الحسين (ع)، وإذا الحسين (ع) بايع، سقطت منظومات ومجهودات الأنبياء، ولكنّ الحسين بن علي (ع) قال مثلي لا يبايع مثله، وكان الثمن كبيرًا جدًا أن رُفع رأسه على الرمح، لكنه منع أن يتسيّد الهوى على الهدى، وكانت النتيجة خطيرة جدًا لو حصلت. {ولو اتّبع الحق أهوائهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن} (المؤمنون، 71).

فالحسين (ع) استنقذ منظومة الهدى، فكان بحق أن نردد في زيارته: "السلام عليك يا وارث آدم (ع) يا وارث نوح (ع) يا وارث موسى (ع)  وعيسى (ع) ،..."، وأيضًا لاستنقاذه المشروع الإلهي.

إذن، نحن انتمينا لهذا الإنسان الذي رفع راية الأنبياء (ع)، والذي استنقذ مشروع الخلافة الإلهية واستنقذ البناء الكوني والهندسة الكونية القائمة على العدل، {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ} (الأنبياء، 16)، {أفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} (المؤمنون، 115)، {مَا خَلقنَاهُمَا إِلاَّ بِالحَقّ} (الدخان، 39)، هنا الأساس الذي انتمينا إليه، هذه هي المنظومة والمصدر، وعرفنا الدور والماهية; أمّا المآل فهو إلى النهايات المفتوحة المبنية على الأمل المرتبط بمهدي آل محمد (عج)، وبالتالي فوظيفتنا أننا نرتبط بالقيمة ونمهد للقيمة، وبذلك يصبح تكليفنا إقامة مفهوم التشيّع الجديد الذي هو الأصيل، الذي نشايع فيه أنفسنا من أجل الحق، فنصبح مُلكاً للإنسانية جميعاً كما أن رسول الله (ص) قال "إنما أنا رحمة مهداة"، فنحن جزء من رحمة محمد (ص) المهداة إلى البشرية من أجل أن يقوم الناس بالقسط تحت راية القائد المهدي (عج)، الذي سيملأ الأرض قسطًا وعدلاً بعد أن مُلئت ظلمًا وجورًا، فيصبح تكليفنا ولزامًا علينا أن نقيم فلسفة الحركة المهدوية بين ظهرانينا وفي مجتمعنا، بأن نكون من أهل القسط والعدل، فننتمي تلقائيًا إلى المسيرة المهدوية، "ولو لم يبق فيها إلا يوم، لطوّل الله ذلك اليوم حتى يخرج رجل من أهل بيتي اسمه اسمي وكنيته كنيتي فيملأ الأرض قسطًا وعدلاً كما ملئت ظلمًا وجورًا".

وهناك دلائل تؤكد النظرية التي أتكلم عنها، فالدليل كان عملية طوفان الأقصى التي كشفت عن إنسانيتنا، وكشفت أننا نحن الوحيدون الذين وقفنا مع طوفان الأقصى، إننا قدمنا أغلى ما لدينا وما زلنا، شيّعنا أنفسنا وشيعنا أحباءنا، وشايعناهم، لأننا اتبعنا الحق، ولأن اختبار طوفان الأقصى اختبر انتماءنا الإنساني والديني والقيمي، وبالتالي ثبتنا القول بالفعل، واقترنت النظرية بالتطبيق، فأصبحنا بحق في تموضع واضح في التاريخ، يقول إننا الجماعة التي أُلقي عليها مسؤولية هامة جدًا، مسؤولية التغيير والصيرورة في المجتمع البشري من أجل تقريب ظهور مهدي آل محمد (عج)، في عملية كبيرة وهامة وخطيرة.

لماذا خطيرة؟ حتى لا تطبق علينا قاعدة الاستبدال، {وَإِن تَتَوَلَّوا يَستَبدِل قَومًا غَيرَكُم ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمثَالَكُم} (محمد، 38)، "وقتلاً في سبيلك فوفّق لنا، ولا تستبدل بي غيري"، حذار من التراجع، حذار من أن لا نقوم بهذا الدور، أي أن يكون لنا هذا الشرف. فهل يكون لنا شرف هذا الانتماء وهذا الدور؟ الزمن هو الذي سيُثبت ذلك، لكننا إن شاء الله بحسب استقراء الوقائع فنحن في هذا الخط إن شاء الله {إنهم يرونه بعيداً ونراه قريباً} (المعارج، 7).

 

الكلمات المفتاحية للمقال:
مشاركه في:

تعليقات

اترك تعليقك هنا