Cancel Preloader
دراسات ومقالات المركز

البصيرةُ شرط الاستمرارية

  • منذ يومين
  • 121
البصيرةُ شرط الاستمرارية

 

البصيرةُ شرط الاستمرارية

الشيخ د. باقر كجك[1]

 

إنَّ طبيعة التحديات التي يواجهها الإنسان في الحياة، وشدة تعقيدها أحياناً، أو خفاء أسبابها والحكمة منها حيناً آخر، وكونها كذلك دائمية في أغلب مراحل حياة الفرد والمجتمع، تدفع الفردَ إلى البحث أكثر فأكثر حول المفاتيح الضروريّة للنّجاح في تجاوز التحديات، بل وفي قلبها إلى فرصٍ حقيقية كذلك.

إنّ أحد المفاتيح الرئيسة في التعامل مع التحديات والاختبارات، هو أن يمتلك الفرد وكذلك المجتمع، مستوىً عالٍ من البصيرة في فهم الظروف المحيطة به، يدفعه إلى اتخاذ الخيارات الصحيحة. وقد جعل الرسول الأعظم(ص) البصيرةَ واحدةً من ثلاثةٍ قُسِّمَ إليها العقل، فقال: "قسم العقل على ثلاثة أجزاء، فمن كانت فيه كمل عقله، ومن لم تكن فيه فلا عقل له.... حسنُ البصيرة على أمره[2]".

 إذن، من المهم ونحن نتجاوز مرحلة الحربِ الظالمة على شعبنا، أن نؤكد على أهمّية امتلاكنا لمستوى عالٍ من البصيرة، والأخذ بيد الشباب واليافعين بل وحتى الأطفال بكل الوسائل التربوية الممكنة من أجل ذلك.

 

أولاً: التربية على التمسّك بالفقه

        إنًّ تربية الأطفال واليافعين، على ضرورة التعرف على الأحكام الشرعية والتصرف وفقها، بل والسعي إلى معرفةٍ أوسع بمداركها القرآنية والروائية، وأبعادها القيمية والأخلاقية، وكيفية تطبيقها بالنحو المناسب والذي يرضي الله تعالى. إن هذه التربية الفقهية، من شأنها أن تحيط الشباب في المستقبل، بحماية قوية تجعل من سقوطه في فخ السلوكات المحرمة، أو ترك الواجبات المؤكدة أمراً مستصعباً، بل إنها ستدفعه عند أي موقف فيه شبهةٍ، أن يراجع في حليّته وحرمته. وهذا التمسّك العملي والعلمي بالفقه والحكم الشرعي، من شأنه أنْ حماية الشاب، بل وجعله إلى حد كبير في مأمن من الفتن والسقوط في التحديات. فقد روي عن الإمام الكاظم (عليه السلام): "تفقّهوا في دين الله؛ فإنّ الفقه مفتاح البصيرة"[3].

 

ثانياً: البصيرة من علامات التقوى

بناءً على النقطة السابقة، فإنَّ التديّن بحلال الله وحرامه عن معرفةٍ ودقةٍ ويقينٍ، يرتقي بالمكلف إلى أنْ يكون من المتّقين. والتّقوى، تعني الحماية والاتقاء والوقاية، وهي مركّبة من الفعل والسلوك والمعرفة. ونحن نعتقد أنّ نسبةً كبرى من المعرفة المتعلقة بالقلب والتي تسمّى بالحكمة، تنبع من التَّقوى التي تمنع انشغال القلب بالمحرمات والشهوات الباطلة. ولذلك، فإنَّ الإمام علي (ع) وصف المتقين بقوله: "هَجَمَ بِهِمُ الْعِلْمُ عَلَى حَقِيقَةِ الْبَصِيرَةِ وَبَاشَرُوا رُوحَ الْيَقِينِ وَاسْتَلَانُوا مَا اسْتَوْعَرَهُ الْمُتْرَفُونَ... وَصَحِبُوا الدُّنْيَا بِأَبْدَانٍ أَرْوَاحُهَا مُعَلَّقَةٌ بِالْمَحَلِّ الْأَعْلَى أُولَئِكَ خُلَفَاءُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ.."[4]، حيث يؤكد الإمام أن التقوى تدفع الإنسان إلى مستويات عالية من المعرفة والعلم القائمة على أسسٍ قوية من البصيرة. فالتقوى، والمعرفة، ثم البصيرة، هي نتاجُ الإيمان الكلي. ومن هنا، نؤكد على ضرورة تفهيم وتبيين الشباب على أن هذه المبادئ في تحصيل التقوى، هي أمور واجبةٌ، وأنّ خسارة التقوى، توجب فقدان المعرفةِ السلمية، وهي تؤدي بالضرورة إلى تشوّش بصيرة الإنسان أو انعدامها كلياً، وبالتالي الوقوع في خسائر لا يمكن تعويضها.

 

ثالثاً: البصيرةُ ضرورةُ الفوز

        يرتبط الفوزُ في التربية الإيمانية والنظام المعياري الإسلامي، بأداء التكليف والواجب الإلهي، بعيداً عن النتائج التي يمكن أن يسفر عنها هذا الجهد. النصر، أو الهزيمة، او غير ذلك من التعابير التي يتم من خلالها تقييم المعارك والحروب. وهذا المبدأ التربوي الهامّ، له شواهده الكثيرة وتطبيقاته اللانهائية في سيرة الرسول وآل بيته عليهم السلام، حيث إن عاشوراء تمثّل أعلى معاني الفوز بأداء التكليف الإلهي الذي قام به الحسين(ع) وبقية الشهداء، رغم المذبحة العظيمة التي حصلت. إلا أنَّ الخاسر الحقيقي والواقعي حينها كان من قتل الإمام، والرابح هو الإمام عليه السلام.

من هنا أودُّ التأكيد على أنَّ أحد الركائز الضرورية للفوزِ بالمعني الإسلامي، هو أن يكون منطلق العمل وأداء التكليف متمثلاً للبصيرة وتطبيقاتها. بمعنى، أن يقوم المكلف، بتحديد وتشخيص المهمات والواجبات، وخصوصاً في القضايا الاجتماعية والسياسية والعسكرية، وكذلك في مواطن الشّبهة والفتنة، ويزيّن الأمور بميزان الحلال والحرام والواجب الشرعي، ومن بعدها يمتثل بسلوكه وفعله لكل ما سبق. وربّما، يكون من البصيرة في العديد من المواقف، أنْ يرجع المكلف إلى الأعلم من العلماء، والأكثر خبرة من بين العلماء والعارفين والمخضرمين، في الشؤون المتنوعة  التي سيواجهها، من أجلِ مساعدته على اتخاذ الموقف السليم.

إن خضوع الطفل إلى هذه النوع من التربية على استنفاذ كل الطرق المطلوبة لبناء موقف سليمٍ، قائم على بصيرة حيَّةٍ، سيثمرُ في امتلاك الطفل قابليات نفسانية محكمةٍ تمكّنه من الثبات في التحديات الكبرى. يروى عن الأمير عليه السلام أنه قال: "‏إِنِّي وَاللَّهِ لَوْ لَقِيتُهُمْ وَاحِداً وَهُمْ طِلَاعُ الْأَرْضِ كُلِّهَا مَا بَالَيْتُ وَلَا اسْتَوْحَشْتُ وَإِنِّي مِنْ ضَلَالِهِمُ الَّذِي هُمْ فِيهِ وَالْهُدَى الَّذِي أَنَا عَلَيْهِ لَعَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ نَفْسِي وَيَقِينٍ مِنْ رَبِّي... وَإِنَّ أَخَا الْحَرْبِ الْأَرِقُ وَمَنْ نَامَ لَمْ يُنَمْ عَنْهُ.."[5]. وفي كلامه عليه السلام هذه الإشارة التربوية الهامةُ، في أن البصيرة المبنية على المعرفة والعلم الصحيح، والهداية (بما تعنيه من اتجاهٍ إيماني واعٍ وغائي)، يمكنها من صناعةِ شابٍّ قويٍّ لا يتزلزل ولا يغير موقفه ولو كانت التحديات في أكثر مراحلها شدّة ودقّة. نرى هذا النوع من التطبيقات المباشرة لقوة الإيمان وثبات البصيرة في الكثير من المواقف التاريخية لكبار الشخصيات الإيمانية، كما في النص التالي الذي يؤكد فيه أمير المؤمنين(ع) على قوة شخصية أحد كبار أصحابه محمد بن أبي بكر، وبصيرته الفذة،  حيث يقول له: "فَأَصْحِرْ لِعَدُوِّكَ وَامْضِ عَلَى بَصِيرَتِكَ وَشَمِّرْ لِحَرْبِ مَنْ حَارَبَكَ وَادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ وَأَكْثِرِ الِاسْتِعَانَةَ بِاللَّهِ يَكْفِكَ مَا أَهَمَّكَ وَيُعِنْكَ عَلَى مَا يُنْزِلُ بِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ"[6].

 

خاتمة

نؤكِّد على أنَّ التّربية الإيمانية السليمة للأطفال واليافعين، تمتاز بموقعية عالية ورفيعة لضرورة امتلاك الفرد لبصيرةٍ إيمانيَّةٍ ووعي عالٍ، وخصوصاً في الفترة المواكبة للحرب والتالية عليها، حيث تنفتح الطريق مجدداً لأبواق العدو، والمنافقين والمتخاذلين، أو الذين تتشوش بصيرتهم، وتتأثر بنيتهم النفسية والعاطفية، وقد تؤثر هذه العوامل معاً، على الموقف الكلي للجماعة وضياع وتشتت الأفراد كلٌّ في اتجاهٍ.

ولذلك، يبرز امتلاكُ البصيرة في سنٍّ مبكرة، تحت رعاية تربوية دقيقة وعالمة وعارفةٍ (في ظل والدين مؤمنيْن، أو علماء ربّانين، أو خبراء متخصصين في المجالات المعرفية المتنوعة..أو كل هذه العناصر معاً)، كهدفٍ تربوي سامٍ واصيلٍ في مدرستنا التربوية، خصوصاً بعد الحرب الوحشية التي مارس فيها العدو أفظع الجرائم الإنسانية، وقيامه بالتشويش الخطير وغير المسبوق على أذهان الناس، ومحاولة حرفهم عن المسار السليم في طلب الحرية والاستقلال والدفاع عن النفس والمقدسات.

 

 

[1] أستاذ جامعي، باحث في مركز الأبحاث والدراسات التربوية-بيروت.

[2]  الصدوق، الخصال,ج1، ص102.

[3]  المجلسي، بحار الأنوار ، ج10، ص 247.

[4] نهج البلاغة، خطبة المتّقين.

[5] نهج البلاغة، الكتب والرسائل.

[6] نهج البلاغة، خطب الإمام علي (ع)، ج ٣، ص٥٩.

آخر تحديث : 2025-01-02
الكلمات المفتاحية للمقال:
مشاركه في:

تعليقات

اترك تعليقك هنا