الشيخ الدكتور باقر كجك
.
الحربُ، وأثقالها
تشكّل الحربُ ظرفاً استثنائيا على مستوى المسؤوليات التربوية الإضافية على كاهل الأسرة، خصوصاً مسؤوليات الأم في دورها المحوي في الحياة الأسرية. حيث تنبعُ هذه المسؤوليات الاستثنائية من طبيعة الظروف والتحديات والمخاطر غير التقليدية التي تُفاجأ بها الأسرةُ، في كسرِ روتين الحياة اليومية ونظامها والإدارة التي كانت تكفل حسن سيرها ووصولها إلى الكفايات والأهداف الخاصة بها.
فعلاً، تشبه الحربُ الزلزال، "إذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا"، إذ تُخرجُ الأعباء الثقال من حيث لم يكن يحتسبُ الإنسانُ لها مسبقاً، وقد يفتقدُ فيها مباشرةً الأسباب والوسائل التي كان يعتمدُ عليها في تسيير أموره. وبما أنّ الحربَ تحملُ في طيّاتها تحديات وجودية تمسُّ جوهر المسير الإنساني إلى الله تعالى، والتي تعتبر الأسرة الإطار الحقيقي والأساس الذي يسهر على تلقّي الفرد للمقدرات المطلوبة لإكمال هذا السير والتوجه إلى الله، فإنَّ دور الأم يمثّل المحور الحقيقيّ والوجودي الذي لا مثيل له في زمن الأزمات والحروب.
أولاً: إدارة الأزمة والحفاظ على الهدف
إنّ أولى المسؤوليات التربوية التي من المهم أن تلتفت إليها الأمّ، بعد استقرار الأسرة في ماوىً ومكانٍ للعيشِ، إما في المنزل المعتاد، أو في مكان النزوح والتهجير المؤقت، هي ضرورة مبادرتها إلى الإمساكِ من جديدٍ بالأهداف التربوية العليا التي ينبغي أن تدور حولها الحياة الأسرية الجديدة في هذا المكان وقت الحرب. نحنُ نعلمُ، أن إنشاء الأسرة إنما هو لهدف إنشاء "الحياة الطيبة" والتي غايتها "القربُ من الله تعالى"، وهما –أي الهدف والغاية هذين- صالحان لكلّ مكان وزمان وظرفٍ تمرّ بهما الأسرة. ولأنّ للأم القدرة والنفوذ العاطفي القويّ والمؤثر في الأسرة، وخصوصاً في زمن الحرب والشدة والخوف والقلق والارتباك (وهي مظاهر سلوكات نفسية بطبيعة الحال)، فإنَّ إعادة التأكيد على محورية وجود الله تعالى، والعلاقة به، وأنّه تعالى مصدر الأمن والأمان، وأنَّ تقلّب الأحوال والظروف لا ينبغي أن يؤثّر على توجهات الإنسان نحو الله وصفاته واسمائه الحسنى وكونه الرب المدبر والرازق وغير ذلك، هي أمور بالغة الأهمية في الحياة الأسرية.
إن إدارة الأزمة في الحياة الأسرية، في ظرف الحرب، تتركّب من أبعاد نفسية ومعرفية ومهارية معقدة ومتنوعة. فالأمّ، المؤمنة، بحفاظها على سلامة اعتقاداتها الإيمانية، من الممكن لها أن تبقى على حالة عالية من الاطمئنان والسلامة المعنوية والنفسية والعاطفية، وبالتالي يمكنُ لها أن تحافظ على مجموعة من المهارات التدبيرية المنسجمة مع إيمان الأم وطمئنانها المعنوي، من قبيل مهارة التدبير المنزلي، والإدارة الاقتصادية، والمتابعة التربوية الضرورية للأطفال.
إنّ ظرف الحرب، ووقوع المآسي والفظائع والمجازر والجرائم، قد تؤثر على السلامة النفسية عند الطفل، وتثير عنده وابلاً من الأسئلة والشكوك (وقد يكون بعضها إيماني وعقلاني)، وكذلك قد تتمظهر في شاكلة اضطرابات سلوكية متنوعة (تمرد، حركة عشوائية، تعدي بالضرب، أذية الجسد، انطواء..بكاء فجائي..الخ). إلّا أنّ تمتّع الأمّ بوضوح الرؤية والهدف والغاية من السلوك التربوي الذي ينبغي أن تقوم فيه في ظرف الحرب، سيؤدّي دوراُ بالغ الأهمّية في جودة إدارتها للأسرة في ظرف الحرب، والتقليل من الأضرارِ الواردة على الأطفال والأسرة، مهما كان ظاهرها قاسياً وطبيعتها معقدة.
ثانياً: الواقعية الايمانية في التربية
ربّما قد تقع بعض الامهات في مطب الافراط في المثالية او اللاواقعية في التربية في ظرف الحرب. فقد تقوم الأم ومن باب التمسك بالمبادئ الايمانية التي لديها (وهي صحيحة في نفسها) بإلقاء كل ما يحصل من فظائع وخسارات على الله تعالى، من باب التسليم المطلق له. وهو ما يمثل نزعة مثالية إغراقية قد يتحملها العرفاء في درجاتهم العليا مع لحاظ ربط التسليم بالإرادة البشرية. وهو ما نسميه هنا بالواقعية الإيمانية، والتي تربط الخير والشرّ بسلوك الانسان واختياراته. وبالتالي، فإن خير الحرب وشرها، مربوط بالسلوك الانساني، بشر العدو المختار لشريته، وخير المجاهد للعدو المختار لخيريته. وأنّ الصبر على شر العدو لا يعني التسليم والاستلام لما يجري! بل الصبر هنا في مقابل أذى العدو، يعني ضمنا التسليم لمجاري الأسباب والعلل الالهية التي وفرت للانسان كافة الأدوات والمعارف والمهارات كي يستفيد منها في مقارعة العدو، فالصبر إذن هنا هو صبر فعّال تدبيري وفيه تتجلى معالم التسليم لله. أحببت الاضاءة على هذا النوع من التفكير، لأنّ هناك أخطاء شائعة في تعليم الصبر والتسليم لله تعالى تقوم في جوهرها على عدم تفهيم الطفل أن حقيقة الصبر هي في البحث عن الفرص والامكانات المتوفرة في سبيل المقاومة والمجاهدة وبذل القوة المناسبة في إعادة توجية المقدرات نحو هزيمة العدو وكسره. وحتى لو جرّ الصبر بعض الأثمان في الانفس والمال، إلا أنّ قيام الجماعة بواجب الإعداد في ظل الصبر، لهزيمة المحتل، هو الموقف الإيماني السليم، وهو ما اصطلحت عليه بالواقعية الإيمانية.
تمثّل الآية الشريفة التالية: (وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) ، فكرةَ الواقعية الإيمانية في التربية على الصبر في ظل الحروب، إذ توجّه الآية المربي المؤمن والمربية المؤمنة نحو اعتبار الابتلاءات المتنوعَة التي تحصل لهم ولمن يقع تحت رعايتهما، على أنّها ينبغي أن تُعامل بالصبر، ولكن أيّ صبر؟ الصبر الذي يؤمّن للإنسان طريقَ الرجوع إلى الله تعالى. والرجوع إلى الله، يمرّ حتماً بإعمار الدنيا والعيش فيها بما يريده الله، من أجل الوصول إليه (إليه راجعون)، ومن أبرز مصاديق نجاح الرجوع إليه في الدنيا: هو إزالة سلطة الظالمين وولايتهم عن المؤمنين! وهنا في الحقيقةِ، مكمنُ الدقّة في العمليات التربوية كافة في زمن الحرب، والتي تستطيع الأم بكامل التجهيز التكويني الذي رزقها الله إياه، أنْ تدخل هذه المبادئ الإيمانية التربوية للصبر في العمليات التربوية كافة التي ستشرف عليها داخل الأسرة. والعبرة في هذه الممارسة التربوية للصبر، أنّها تورثُ البشرى (وبشّر الصابرين)، مهما كان الثّمن المدفوع على شاكلة الإخراج من المنازل، الجراح، الشهادة وغير ذلك.
ثالثاً: المهارات المتنوعة للأم في زمن الحرب
إنَّ الوجه الإجرامي والوحشي للحرب والعدوان علينا يطال النواحي المتنوعة للحياة الأسرية خصوصاً الأمن الاقتصادي، والأمن العاطفي، والمسار التعليمي للأطفال.
الأمن الاقتصادي، حيث ستضطر ضآلة الموارد المادية والاقتصادية الطارئة على الأسرة، أن تعيد الأم توزيع الموارد بشكل عادل ومتناسب مع هذه المرحلة. ولكن من المهم جداً، أن تعرّف الأطفال على هذه التعديلات وأسبابها، وأنها ربما قد تكون طويلة، ولكن أيضاً قد تتحسّن، وكذلك تطلعهم على خطّةِ الادّخار الطارئة التي ربما ستشرع بها توفيراً لحافظة مالٍ قد تستخدمها في أوقات اشتداد الأزمة. ومن هنا، فإنّ التدبير المنزلي والاقتصادي للأسرة في وقت الحرب، وإن كان هو واقع لا بد منه، إلا أنّ التعامل معه بوعي وإيمان ومعرفة وبساطةٍ كذلك، من شأنه أي يولّد عن الأطفال الخبرات التالية: أولاً، أن العيش في ظل إمكانات مالية أقل هو أمرٌ ممكنٌ، وأن التخلي عن بعض الكماليات ليس عيباً. ثانياً، أن يختبر الأطفال مهارة الأم في التدبير وإدارة الأسرة مالياً ومعيشياً بالموجود من المقدرات، وأنّ ذلك أمرٌ لن يزعزعَ عاطفة الأهل ولا الأهداف الإيمانية العليا التي يؤمنون بها. وثالثاً، أن يشارك الأطفال أنفسهم في تحمّل المستجدّات الاقتصادية، من خلال انسجامهم في الأدوار التي تُطلب منهم، وفي الحفاظ على الموجودات وعدم استهلاكها بلامبالاةٍ، وفي ترشيد أكلهم وشربهم ولبسهم كما يُطلب منهم، ولربما أيضا –في حالات خاصة- أن يسهموا بمساعدة الأهل في الانتاج والعمل ضمن عمل عائلي لإضافة مدخول آخر على الأسرة.
فالتَّدبير في المعيشة، وفي ظلّ الحرب، من الأمور المهمّة في الحياة الإيمانيَّة التي يريدُها الإسلام من الإنسان المؤمن، إذْ أكّد الإمام جعفر الصادق عليه السلام على هذه الحقيقة، بقوله: "لا يَصلُحُ المؤمنُ إلا على ثَلاثِ خِصالٍ: التَّفقُّهِ في الدِّينِ، وحُسنِ التَّقديرِ في المعيشةِ، والصَّبرِ على النّائبَةِ".
وأن "سوء التدبير سبب التدمير" و "سوء التدبير مفتاح الفقر" كما يروى عن الإمام علي (عليه السلام) ولذلك فإن "حسن التدبير ينمي قليل المال"! لذلك تتأكد هذه النصائح العلوية الشريفة أكثرَ في زمن الحرب، وخصوصاً الأم والزوجة التي يرتفع عملها التدبيري هذا إلى أعلى مصافِ الأعمال العبادية كما فيما روي عن الإمام علي عليه السلام: "خير نسائكم الطيبة الريح، الطيبة الطعام، التي إن أنفقت أنفقت بمعروف، وإن أمسكت أمسكت بمعروف، فتلك من عمال الله، وعامل الله لا يخيب" وأنّ من صفاتها أنّها "تعين زوجها على دهره لدنياه وآخرته ولا تعين الدهر عليه".
الأمن العاطفي، إذ الحربُ ظرفٌ للخوف. فالأهوال التي قد يعيشها الطفل، جراء القصف الوحشي والإجرامي، ورؤيته للمجازر الدموية، وتفكيره الدائم بإمكانِ تعرّضه للقصف أو التهجير، أو أن يستيقظ على خبر جرح قريبٍ له، أو شهادة أحد من أرحامه أو أصدقائه، قد يسبّب له حالات من الخلل في التوازن النفسي والعاطفي بل وفي السلامة النفسية والعاطفية بشكل عام. هنا يبرز الدور الأبرز للأم، في تقديمها ما لا يمكن لغيرها تقديمه، من الاحتضان العاطفي الواسع والمتناسب للطفل. إذ تساعد عودة الطفل إلى أمه في هذه اللحظات الحرجة، ما يشبه العودة إلى الرَّحِم الذي جاء منه الطفل في البدء... والذي هو أأمنُ مكانٍ قد يكون في الإنسان في كل حياته في الدنيا. ولذلكَ، فإنّ الاحتضان الجسدي الذي ينبغي أن تقوم به الأم، في تواصلها وتماسها الجسدي مع الأطفال، على شاكلة الاحتضان، التقبيل في الوجنتين والكفين، التربيت على الرأس، وغير ذلك من الأمور، يساعد كثيرا على تهدئة الطفل، ونزع المخاوف التي قد تسكنه، بل قد تشتّتها إلى الأبد. من الأخطاء الكبرى التي قد تقع فيها بعض الأمهات في ظرف الحرب، أن تنتخب طريق الوعظ والكلام والتفصيل المنطقي والسببي لكل ما يحصل، وهو طريق سليم ومطلوب لكن بحدوده، فيما تشكّل أساليب الاحتضان العاطفي: الجسدي، واللفظي، والمعنوي، والمادي... الجانب الأوسع من الحياة التربوية في ظل الحرب.
إنَّ فقدان الأب واستشهاده أو جرحه، أو طول غيبته عن الأسرة، تفرض على الأم مزيداً من العناية العاطفية باحتياجات الأطفال. وقد تنتخب من أجل ذلك، وسائل متنوعة معهم، كاللعب، والسير معاً والتنزّه، وإلقاء النكات والحزازير، والاستماع لهم، والرسم والتلوين معهم، أو النوم إلى جانبهم أحيانا وبالمقدار المناسب.. الخ..
فيما تساهم البسمةُ وعبارات الحمد والشكر لله تعالى، والمظاهر العبادية كالصلاة والدعاء وقراءة القرآن الكريم، وبعض الأعمال العبادية الظرفية الأخرى، في إزالة القلق والخوف من قلوب الأطفال، وذلك للأثر التكويني المباشر للعبادة والتي نؤمن بوجودها للأدلة الكثيرة كما في قوله تعالى " أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ"، أو لأنّ المظهر الخارجي للأم العابدة في صلاتها ودعائها هو يوحي بالتأكيد إلى أنّ الأم وهي القدوة، تعيشها حقيقةً اطمئناناً كافياً يجعلها تقوم بالصلاة والدعاء، وهو ما سيقرأه الطفل على عدم وجود أي مبرر للخوف وإلا لظهر على أمّه.
المسار التعليمي للأطفال: إن من الكوارث الكبرى في الحروب، هي فقدان الطفل لمساره التعليمي الأكاديمي التقليدي، فيتوقف الذهاب الى المدرسة، ويفقد كتبه وحقيبته ومكان دراسته اليومية في المنزل، وتواصله مع زملائه ومعلّميه، وينفكّ بالتالي عن مسار تراكم المعرفة والمهارات ونظام التقويم الخاص الذي يخضع له. وهنا، وفي ظرف الحرب، تبرز أيضاً أهميّة التفات الأم إلى أنّ متابعة التحصيل العلمي، بالمقدار المتوفّر. وقد يكون ذلك بالتعاون مع المدرسة عبر التعليم الالكتروني. أو عبر التعليم المنزلي في حال توفرت بعض الكتب الدراسية أو أمكن تأمينها بصيغة ألكترونية، أو الاستفادة من المواقع الالتكرونية التعليمية المجانية. إذ، يقع العديد من الأهالي في مطبّ تعطيل الدراسة وما يتركه ذلك من وقت فراغ هائل لا يمكن ملؤه إلا بترك الأطفال يلعبون، أو يقعون فريسة الأجهزة الالكترونية (التابلت، الهاتف الذكي..الخ). إن واجب الأم، تربوياً، أن تسعى بكامل قوتها وتدبيرها، لأنْ تؤمّن المقدار الممكن من البيئة التعليمية للطفل، ولو كان في مكان النزوح والتهجير أو غير ذلك، طالما أن التهديد المباشر يكون بعيداً أو غير محتمل بشكل قويّ. وهذا الأمر يمكن أن يتيسّر بطريقة أو بأخرى. وإن فوائد هذا الاهتمام بالمسار العلمي للأطفال، في زمن الحرب، لا تخفى.
خاتمة
وفي الختام، ومع أنّ الأدوار الأخرى التي يمكن أن تناط بالأم في زمن الحرب، قد تكون كثيرةً، إلا أن هذه المقالة تعرّضت لأهمّها، وهي كلّها مبنية على الصّبر الفعّال والذّكي المطلوب وجوده في بنية الأم وجهازها المعرفي والنفسي والسلوكي كي تكون بالفعل قائداً حقيقياً للأسرة في الحرب وخصوصاً في الشق التربوي الذي يعنينا، وعن الإمام الصادق(ع) أنه قال: "الصّبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، فإذا ذهب الرأس ذهب الجسد، وكذلك إذا ذهب الصّبر ذهب الإيمان". وعن الإمام علي(ع) أنه قال: "من ركب مركب الصّبر، اهتدى إلى مضمار النصر".
تعليقات