Cancel Preloader
دراسات ومقالات المركز

التربية الاقتصادية للأبناء

  • 2024-07-20
  • 2000
التربية الاقتصادية للأبناء

التربية الاقتصادية للأبناء

 

تمهيد

يشكل الاقتصاد أحد عوامل قوة الدول وسيادتها، وتشكل التربية الاقتصادية السليمة مدخلاً لعزّة الأمم ونمائها وتقدّمها كمجتمعات عموماً ومن عوامل هناء معيشة الفرد خصوصاً.  وهو سبيل لتطور المجتمع البشري بمختلف فئاته وطبقاته، ولا بد من إدارة اقتصاد الدول والمجتمعات والأسر والأفراد باعتدال دون الوقوع في مخاطر الإسراف والتبذير من جهة ولا التقتير من جهة أخرى، وينطبق هذا الأمر على الكبار والصغار على حد سواء.

وتشكل التربية الاقتصادية أحد أبعاد الشخصية الإنسانية عموماً، وأحد مجالات تربية الأبناء خصوصاً، لا سيما أنها لا تحضر بالشكل الكافي في مجتمعاتنا. حيث يتوجّب على المربّين عموماً والوالدين خصوصاً تربية الأبناء على المفاهيم الاقتصادية السليمة المتوافقة مع الشريعة الإسلامية وتزويدهم بالمعارف والمهارات اللازمة ليكونوا أفراداً متّزني الشخصية من جهة وفاعلين اقتصادياً منذ نشأتهم وحتى وصولهم إلى مرحلة يصيرون فيها آباء وأمهات ومنتجين مساهمين في بناء مجتمعاتهم. فلا ينحصر دور الوالدين في زراعة القيم الأخلاقية والعقائدية والاجتماعية والعلمية، بل يجب أن تطال مختلف أبعاد شخصيات أبنائهم، ومنها الاقتصادية حتماً.

وفي ظلّ انتشار واستفحال الفكر المادي المتوحّش في العالم اليوم واستحكام قيمه على مستوى الدول والمجتمعات والأفراد، لا بد من الالتفات إلى أن أسس التربية الاقتصادية من وجهة نظر الإسلام المحمدي الأصيل تختلف كثيراً عمّا هو شائع. فللإسلام نظام اقتصادي متكامل وشامل يحكم جميع ممارسات وسلوكيات الأفراد والمجتمعات، ويتحدد فيه الموقع الصحيح للفرد في الهيكل الاقتصادي، والدور الإيجابي الأمثل الذي يجب أن يلعبه في مجتمعه، وللوصول إلى ذلك لا بد من تربية الطفل منذ نعومة أظافره على تلك المفاهيم والقيم.

 

أولاً: مصطلحات ومفردات:

وللبحث في هذا المجال لا بد من بيان بعض المصطلحات والمفردات:

  1. الاقتصاد: من قَصَدَ، وهو في اللغة بمعنى استقامة الطريق واعتداله، "فاقْتَصَدَ لم يُجاوِزِ الحَدَّ ورَضي بالتَّوسُّطِ، ومنه القَصْدُ في الحُكمِ وغيرِهِ، وهو العدل؛ لأَنَّه بين الإِفراط والتَّفريط". والمقصود من الاقتصاد هنا: "تدبير شؤون البيت وتوفير المال ومتطلبات الحياة، كما يعني الاستخدام الأمثل للموارد المادّية وغير المادّية"

  2. الاقتصاد الإسلامي: هو العلم الذي يبحث في نشاط الإنسان في المجتمع، من حيث حصوله على الأموال والخدمات حسب المنهج الذي رسمته الشريعة الإسلامية للحصول عليها. والذي تحكمه المبادئ الواردة بمصادر الشرع الإسلامي واجتهادات الفقه الإسلامي، التي من خلالها يتم توجيه النشاط الاقتصادي لتحقيق مصالح المجتمع الإسلامي، وذلك لأن شريعة الإسلام شريعة الوسط والاعتدال في  كافة الأمور ومنها الاقتصاد.

  3. التربية الاقتصادية: هي العملية التعليمية التي تركز على تزويد الأفراد بالمعارف والمفاهيم والمهارات والاتجاهات والقيم بهدف مساعدته على القيام بمتطلبات دوره كمواطن صالح وعضو فعّال في مجتمعه وكمنتج كفؤ للسلع والخدمات، وكمستهلك رشيد، يعرف ما له من حقوق وما عليه من واجبات، وكمدّخر ومستثمر واعٍ[1].

  4. التربية الاقتصادية الإسلامية: هي أن يعمل وليّ الطفل على إكساب طفله مجموعة من المعارف والاتّجاهات، وتعويده على مجموعة من السلوكيّات، وتدريبه على المهارات التي تجعل أنشطته الاقتصاديّة، ومعاملاته مطابقة لمنظومة القيم الدينيّة والتشريعات الإلهيّة من جهة، وتمكِّنه في المستقبل من استثمار الممتلكات واكتساب الأموال، واستعمالها بطريقة متوازنة، توصله إلى العيش الكريم والتقرّب إلى الربّ الرحيم.

 

ثانياً: بعض مقوّمات الاقتصاد الإسلامي

هناك مقوّمات عدة نذكر منها ثلاث مقوّمات أساسية:

  1. السعي والعمل أساس لتحصيل الرزق: فرزق الله تعالى متوفر إلا أنه يحتاج إلى أن يبادر الفرد إلى السعي للحصول عليه، وقد حثّ الإسلام على العمل من أجل الكسب الحلال والسعي نحو تحصيل الرزق، بل إن تحصيله مرتبط بأسباب ومنها السعي والعمل، فقد ورد عن الإمام علي (عليه السلام): "اطلبوا الرزق فإنّه مضمون لمن طلبه"[2]، وأعطى الساعي إلى الرزق مرتبة عالية حيث وضعه في مصافّ المجاهد في سبيل الله، ففي الحديث عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: "الكادُّ على عياله كالمجاهد في سبيل الله"[3].

  2. ترشيد الإنفاق والاستهلاك: فلِنَمط الإنفاق والاستهلاك مدخلية في تحديد المستوى الاقتصاديّ لكلّ فرد أو عائلة أو مجتمع، فإن كان مبنياً على أسس وضوابط يرتضيها الشارع المقدّس، ويقتضيها شأن الإنسان وحاجته، وكانت مصداقاً لقوله تعالى في الآية 67 من سورة الفرقان: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا}.

  3. التكافل الاجتماعي: التكافل الاجتماعي جزء من عقيدة المسلم والتزامه الديني، وهو نظام أخلاقي يقوم على الحبّ والإيثار ويقظة الضمير ومراقبة الله عزَّ وجلّ، ولا يقتصر على حفظ حقوق الإنسان المادية، بل يشمل أيضاً المعنوية؛ وغايته التوفيق بين مصلحة المجتمع ومصلحة الفرد[4]، ويكون ذلك من خلال فريضتي الخمس والزكاة ومن خلال الصدقة وتكفل الأيتام وأبناء الشهداء والأسر التي لا معيل لها، وقد ورد عن رسول الرحمة محمد (صلى الله عليه وآله) أنه قال: (ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع، وهو يعلم)[5].

 

 

ثالثاً: متى تبدأ التربية الاقتصادية؟

يبدأ تشكل المفاهيم الاقتصادية لدى الطفل منذ صغره، وتتراكم معارفه ومهاراته الاقتصادية مع نموّه، وهو ما يجب أن يلتفت إليه المربون ولا سيما الوالدان، فمن تعلّمه المحافظة على مقتنياته وما يستهلكه من طعام أو شراب وصولاً إلى قيامه بعمليات الشراء والبيع والحساب والادّخار كراشد. حيث لا بد من تربيته على تحديد معايير الصح والخطأ ومعايير الحاجة والضروريات والكماليات وغيرها.

 

 

رابعاً: العلاقة بين التربية الاقتصادية والأبعاد العقائدية والأخلاقية والفقهية

فسلوك الأبناء الاقتصادي يجب أن ينطلق من أساس حاكم بأن المالك الحقيقي لكل المخلوقات والأرزاق هو الله تعالى، ويتفرع عن ذلك ما يلي:

  1. إن هذه النعم التي يتصرف بها إنما هي أمانة بين يديه، وسيُسأل عنها بكبيرها وصغيرها، ففي الحديث عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) "كل نعيم مسؤول عنه يوم القيامة إلا ما كان في سبيل الله تعالى"[6].

  2. أن يشكر الله قولاً وفعلاً على ما رزقه من رزق مادي ومعنوي، كما أن شكر النعمة باب من أبواب الرزق، فكما ورد في الآية 7 من سورة إبراهيم {وإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ}.

  3. القناعة بما قسم الله له: فهو تعالى أدرى بمصلحة كلٍ منا، ويرزقنا بما فيه صلاح دينانا وآخرتنا، حيث أشارت الآية 27 من سورة الشورى إلى ذلك، {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ}.

  4. التوازن في الإنفاق: بلا إفراط ولا تفريط، ففي الآية 29 من سورة الإسراء {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ ٱلْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا}.

  5. الالتزام بما هو حلال والابتعاد عن المحرمات: ففي الكثير من الآيات والأحاديث ما يحدد حدود الله تعالى في المعاملات وأحكامها، كقوله تعالى في الآية 168 من سورة البقرة {يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِى ٱلْأَرْضِ حَلَٰلًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُواْ خُطُوَٰتِ ٱلشَّيْطَٰنِ ۚ إِنَّهُۥ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} أو ما أشار إلى تحريمه في الآية 275 من سورة البقرة {... وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا...}.

  6. الكرم والسخاء: فعن الإمام جعفر بن محمد عن آبائه عليهم السلام قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: "السخيّ قريب من اللّه، قريب من الناس، قريب من الجنة. والبخيل بعيد من اللّه، بعيد من الناس، قريب من النار"[7].

  7. إخراج الحقوق الشرعية (الخمس والزكاة والصدقة ...): وهو أحد السلوكيات الاقتصادية التي على المسلم الالتزام بها وفق ما أشارت إليه الآية 41 من سورة الأنفال {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لله خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِالله وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ ۗ وَالله عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، مع الالتفات إلى الجانب الاجتماعي لهذا السلوك لجهة التكافل الاجتماعي وتوفير مورد المساعدة والدعم للفئات المحتاجة في المجتمع.

  8. الجهاد بالمال: وهو أحد أوجه مشاركة الفرد المسلم في تحمل مسؤوليته تجاه الأمة عبر المشاركة في اقتطاع جزء من ماله للمساهمة في دعم المجاهدين، ففي الآية 41 من سورة التوبة {انفروا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ الله ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}، وهو ما يشكل باباً لكل فرد أن يكون شريكاً في الجهاد ولو بقَدَرٍ، ولا يخفى على أحد مكانة الجهاد في سبيل الله وأهميته على مستوى الفرد والمجتمع.

ويطول الحديث في هذا المجال حيث هناك الكثير مما كتب حوله إلا أننا نكتفي بهذا القدر.

 

 

خامساً: من أساليب التربية الاقتصاديّة

بهدف الاستفادة العملية نورد بعض الأساليب التربوية التي يمكن اتباعها لتربية الأبناء تربية اقتصادية سليمة، مع الإشارة إلى أنه لا بد من الأخذ بعين الاعتبار المرحلة العمرية للإبن والتنوّع في الأساليب والطرائق المعتمدة بما يحقق أعلى مستوى تأثير، مع لحظ المتغيرات التي يمر فيها بين فترة وأخرى، ونذكر الأساليب الآتية:

  1. التربية بالقصة: فللقصة تأثير عالٍ على الجانب العاطفي والفكري لدى الأبناء، وهي وسيلة اعتمدها الله تعالى في كتابه لما لها من جاذبية ومؤثّرية. ويمكن الاستفادة من سير الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) كقصة النبي موسى (عليه السلام) مع قارون وكنوزه أو قصة النبي أيوب (عليه السلام) وصبره على ما فقد وتعويض الله تعالى له. أو غيرها من القصص.

  2. التربية بالحفظ والتلقين: عبر حث الأبناء على حفظ بعض الآيات والأحاديث التي تحمل قيماً اقتصادية كقوله تعالى في الآية 31 من سورة الأعراف: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} أو الأحاديث والروايات عن الأمير (عليه السلام): "الاِقْتِصادُ يُنْمِي القَليلَ"  و"الاقتصاد نصف المؤونة "[8].

  3. التربية بالقدوة: وهو من أكثر أساليب التربية تأثيراً وسرعة في الرسوخ في النفس، خصوصاً أن الوالدين يشكلان النموذج القدوة الأكثر تأثيراً في الأبناء، فعن الأمير (عليه السلام): "من نصّب نفسه للناس إماماً، فعليه أن يبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره، وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه"[9].

  4. الممارسة العملية والتدريب المباشر: ويكون ذلك بإيكال الإبن مسؤوليات اقتصادية تتوافق مع عمره، عبر قيامه بالشراء أو البيع أو الادخار، فضلاً عن تحمله مسؤولية قراراته تحت إشراف الوالدين وتوجيههم له عند الحاجة والضرورة، وصولاً إلى انخراطه في العمل ولو خلال فترات العطل وأوقات الفراغ بما ينمي لديه مهارات السعي إلى تحصيل الرزق وتقدير قيمة المال والمقتنيات وتحديد الأولويات في موارد الاستهلاك والشراء.

  5. الترغيب والترهيب: وهو أسلوب لا يختص بمرحلة عمريّة معينة، بل يشمل جميع مراحل حياة الإنسان، فالترغيب في الصدقة والإنفاق على الفقراء والمساكين وتقديم وتبادل الهدايا باعتدال، والترهيب من السلوكيات الاقتصادية المذمومة كالسرقة والتبذير والتقتير يزرع فيهم القيم اللازمة للسلوكيات الاقتصادية الإسلامية السليمة.

 

إن إغفال تربية الأبناء تربية اقتصادية سليمة سينعكس سلباً بشكل مباشر على مستقبلهم في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا سيواجهون مصاعب الحياة بدون امتلاك المعارف والمهارات اللازمة لهناء عيشهم ويفقدون عاملاً مؤثراً من عوامل الحياة الطيبة التي يرجو الأهل أن يعيشها أبناؤهم مهما كان وضعهم الاقتصادي فعن  الأمير (عليه السلام) : "لا يقعدن في السوق إلا من يعقل الشراء والبيع"[10]، وفي الآخرة ستكون معاملاته المخالفة للشريعة آثاماً وأثقالاً تودي به إلى العقاب الإلهي، فعن الأمير (عليه السلام): "من أتجر بغير علم ارتطم في الربا ثم ارتطم"[11].

 

 

 


[1]  عاطف عبد الله، دراسات في المناهج وطرق التدريس، 2002م

[2] الإرشاد، الشيخ المفيد، ج1، ص 303

[3] الكافي، ج 5، ص 88

[4]  جمعية المعارف الإسلامية الثقافية https://www.almaaref.org/maarefdetails.php?id=12596

[5] الكليني، الكافي، ج 2، ص 668

[6] ميزان الحكمة - محمد الريشهري - ج ١ - الصفحة ٦٢١

[7] بحار الأنوار م 15 ج 3 عن كتاب الإمامة والتبصرة

[8] غرر الحكم، للآمدي، ج1، ص15، ح389

[9] شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج18، ص220

[10] الكافي، ج 5، ص154

[11]   نفس المصدر.

مشاركه في:

تعليقات

اترك تعليقك هنا