نظّم مركز الأبحاث والدراسات التربوية الملتقى التربوي رقم 1 للعام 2024 وذلك مساء نهار الثلاثاء 30-1-2024 م، تحت عنوان [نظرية المقاومة ودور الإعلام في التربية على المقاومة] (قدمه الشيخ الدكتور محمد باقر كجك).
المداخلة رقم 1: نظرية المقاومة في فكر الإمام الخامنئي (دام ظله) مدخل إلى منهج التربية على المقاومة (السيد كميل باقر زاده/ الجمهورية الإسلامية الإيرانية)
المداخلة رقم 2: دور الإعلام في التربية على المقاومة (د. عبد الله قصير/ لبنان)
بدأ الملتقى بمقدمة للشيخ الدكتور محمد باقر كجك قال فيها:
في هذه الفترة الاستثنائية من حياة الإنسانية، تعيشُ أمتنا وشعوبنا فصلاً حاسماً من الصراع على الهوية والفكر والوجود. لقد سلختْ المجازرُ في غزّة بقوة الشهادة والتضحية، وبدماء عشرات آلاف الأطفال والنساء والشيوخ، الأقنعة الزائفة للإمبريالية الغربية بوجهها الماديّ والبراغماتي، وظهر الوجه الحقيقي الذي تختفي فيه معالم القيم الإنسانية والإلهية وتسوده مظاهر اللايقين والعبثية والفردانية المتغولة إلى غير حدود. إنَّ ما شاهده العالمُ بعينين مفتوحتين، من هذه السُّفرةِ الممتدة من الانتهاكات والتي يسيل الدم من أطرافها، والضرب بعرض الجدار بكلَّ العهود والمواثيق والقوانين والهيئات والمؤسسات الدولية التابعة للمجتمع الدولي، يؤكّد على أنَّ قيام المستعمر بالقتل المادي المباشر والتصفية الجسدية للمستضعف هو تعبير لا لبس فيه عن الضعف الفكري والثقافي والسياسي والتربوي والدرك الحضاري المتهالك الذي قد وصل إليه، إذ أن الأدبيات الرصينة في الفلسفة والأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع تؤكّد على أنَّ القتل الرمزي للآخر هو الأكثر عنفاً وضراوة وإفناءً له.
ولذلك فإنَّ وقوفنا اليوم، أمام هذا المفصل التاريخي الحساس، وبعد عقودٍ من التيارات النضالية والمقاومات المتنوعة التي بذل من أجلها أبناء المنطقة والشعوب الغالي والنفيس، وكذلك بعد أربعة عقود على البدءِ بمشروع الحضارة الجديدة الذي أسس له الإمام الراحل على رأس تيّار عالمي اسمه تيار المستضعفين، والذي يحملُ روح المقاومةِ كموقفٍ حضاري ووجودي أصيلٍ، حاضنٍ لكلِّ تيار مقاوم ومواجه للاستكبار العالمي، يدفعنا إلى التأكيد أكثر فأكثر على أهميّة إعادة القراءة العلمية في هذا الطرح الحضاري الكبير أي مشروع ونظرية المقاومة، باعتبارها أي المقاومة، تعبّر عن موقفٍ فكري أصيلٍ ينتمي إلى مدرسة الوحي الإلهي التي تريد رفع نير العبودية والاستضعاف عن رقاب البشر وتقديم فرصة الحرية الحقيقية لهم وفق القيم الالهية الثابتة والنهائية، كما أنها مدرسة غير مقفلة ومفتوحة على كل عاشق للحرية في هذه الأرض.
تتجاوز المقاومة كذلك، فكرة العمل المسلّح والذي هو ومع أهميّته يظلُّ في المراتب المتأخرة من مستويات المقاومة الشاملة، فالمقاومة طرحٌ حضاريٌّ عامٌّ وتأسيسيٌّ وشاملٌ، في مقابل منظومةٍ شاملة وكليّةٍ، تستوجب إيضاح ذاتها وأسسها ومبانيها النظرية وميادينها، كما أنها تستبطن ضرورة النقد الكلي والشامل للمدرسة المقابلة، وتسعى كذلك لإبراز منتجاتها في كافة الميادين، وخصوصا الساحة التربوية.
صحيحٌ، أنَّ ميادين التربية والتعليم المعاصرة، تشهدُ صراعاً قوياً على النظرية والمنهج، خصوصاً حينما يتمُّ النظر إلى النواتج التربوية والتعليمية لشخصية المتربي والمتعلم، كفردٍ في مجتمع وثقافة وحضارة، إذ تُمسكُ المنظومة الغربية (بمختلف اتجاهاتها) برقبة المتربّي على المستوى الثقافي والإنساني وتشرف على تنشئته وفق معاييرها ومبانيها، وهي وإن سمحت لنظرية التربية والتعليم النقدي (Critical learning) أو لدخول مصطلح "المقاومة" في أدبياتها، إلا أنّها سمحت لذلك بشكل وظيفي بما يخدمُ الحفاظ على هذه المدرسة الكلية، وهو ما يجعل من الخروج من أسر الثقافة والحضارة المادية الغربية بوجهها الاستعماري أمراً عسيراً على أفرادها.. وهو أيضاً ما يدمي القلب أكثر.
كما أن هناك محاولات جادة على مستوى الباحثين التربويين في النظرية التربوية، لإيجاد أرضية تربوية وتعلّمية تقوم بنيتها على خلق مساحة تربوية وتعليمية مناهضة للاضطاد ومقاومة للتسلط، كفهم اجتماعي وسياسي يشير إلى مقاومة التعلم كجزء من المعارضة العامة للظروف المجتمعية من قبل السكان أو الشرائح أو الطبقات المضطهدة. حيث يتضمن هذا الفهم أيضًا تطوير استراتيجيات بديلة وإمكانيات التعلم. ولربما يكون الشهيد مطهري في كتابه التربية والتعليم، وكذلك البرازيلي باولو فريري في كتابه تربية المضطهدين، من أوائل من بدأ في النظر إلى روحية التربية والتعليم النابعة من الهوية الثقافية الخاصة بالشعوب المضطهدة.
ومن هنا، طالب الإمام الخامنئي الشباب في لقاء مع طلاب المدارس عام ٢٠١٨ بمناسبة اليوم الوطنيّ لمقارعة الاستكبار العالمي بأن يتمّ الترويج " لنظريّة مقاومة العدوّ ذو القبضة القويّة. نظريّة المقاومة نظريّة أصيلة وصحيحة؛ إن كان على المستوى النّظري، أو على المستوى العمليّ؛ ينبغي الترويج لهذه النّظريّة ضمن النطاقين النّظري والعمليّ"
لذلك نلتقي هنا، على هذه الطاولة للتفكير والمباحثة في المداخلة الأولى حول نظرية المقاومة وأسسها وميادينها، في ظلّ الطرح الكبير للحضارة الجديدة للقائد الثوري الكبير والمفكر النادر والمحرّك الماهر لروح الحرية في الشعوب، الإمام الخامنئي (دام ظله).
أما في المداخلة الثانية فسيتم التركيز على دور الإعلام في التربية على المقاومة، كميدان أساسي من ميادين التنشئة والتربية على المقاومة، حيث يعدُّ أحد الأدوات الأساسية المشتركة بين جميع تيارات المقاومة في مدرسة الصراع بين المستضعفين والمستكبرين، وقد برز دور الإعلام بشكل قوي ومؤثر جداً في العقدين الأخيرين في التربية والتنشئة الاجتماعية لطيف واسع من الأجيال الذين قد يختلفون في انتماءاتهم الدينية والمذهبية والثقافية، لكنّهم يشتركون في ثقافة المقاومة، وقد أثّر الاعلام المقاوم في إيجاد أرضية تربوية مشتركة وتنشئتهم على مجموعة قضايا ومفاهيم تربوية مرتبطة بثقافة المقاومة. فما هي هذه المفاهيم المشتركة؟ وما هي الأدوات التي تم استخدامها في التنشئة والتربية على المقاومة من قبل الاعلام (تلفزيوني، إلكتروني، وسائل تواصل الخ)؟ وكيف برزت نتائج هذا الدور في القضية العالمية الأخيرة حول الهجوم على غزة؟
المداخلة رقم 1: (السيد كميل باقر زاده/ الجمهورية الإسلامية الإيرانية)
بدأ السيد باقر زاده مداخلته بالحديث عن نظرية المقاومة، حيث ظهرت كنظرية شاملة ومتكاملة في العصر الحديث مع انتصار الثورة الإسلامية في إيران، رغم أنّها كانت موجودة كفكرة أو كممارسات هنا وهناك، إلا أنّ الهيمنة الظاهرية للقوى المستكبرة وسيطرتهم المادّية على العالم وتقسیمهم إياه في ما بينهم لمعسكرين: شرقي وغربي من جهة، وتقاعس الحكام والنخب في العالم الإسلامي وانبطاحهم وعقدة الدونية والهزيمة الذاتية لديهم وعدم قيامهم بواجباتهم ومسؤولياتهم السياسية والفكرية مقابل هذه الهيمنة من جهة أخرى، لم يترك للشعوب خياراً سوى الاستسلام والرّضوخ لمشهد النظام العالمي الظالم كأمر واقع لا بدّ منه وحقيقة مرّة لا يمكن تغييرها.
في مثل هذه الظروف الحالكة قاد الإمام الخميني (ره) أعظم ثورة شعبية في العالم حتى الانتصار، واعتبر القوى المادية وبريقها لا شيء، ورفع راية النهضة والنضال في وجه الطغاة، وأحيا روح العزّة والإباء والتحرّر لا لدى الشعب الإيراني المسلم فحسب، بل في ضمائر المسلمين والمستضعفين في أنحاء العالم، فأيقظهم من سُباتهم، ورسم أمامهم طريقاً ثالثةً «لا شرقيةً ولا غربية»، وأثبت لهم بشكل عملي كيف تكون الثورة والانتصار، فتلقّفت الشعوبُ درسَه وانطلقت نحو التطبيق بشكل أو بآخر.
بعد رحيل الإمام الخميني قاد الإمام الخامنئي هذه الثورة نحو أهدافها التحررّية العالمية بنفس الزخم والصلابة، فقدّم للشعوب المسلمة والمستضعفة طرحاً نظرياً متماسكاً عقلانياً وفطرياً، ومشروعاً عملياً واسعاً لمقاومة الغطرسة في المنطقة من خلال دعم الحركات المقاومة، فكانت النتيجة باهرة، وظهرت حقيقة جديدة وظاهرة غير مسبوقة نطلق عليها اليوم مصطلح «جبهة المقاومة».
وكما أشرنا، يستند هذا الإنجاز العظیم وتأسيس جبهة المقاومة إلى تنظير علمي عميق من جهة وتطبيق عملي قوي من جهة أخرى، ففي الميدان الفكري ساهم الإمام الخامنئي بشكل كبير جدّاً في تكريس نظرية المقاومة والتنظير لها وصناعة الخطاب حولها، وفي الميدان العملي أنجز سماحته أهمَّ الخطوات الضرورية لإسناد المجموعات الشعبية المؤمنة بفكرة المقاومة في المنطقة وتقويتها حول محور قضية فلسطين وبعيداً عن النزعات الطائفية والنعرات المذهبية، فأصبح بحقّ «إمام جبهة المقاومة» على المستويين الفكري والعملي.
كما أنّ سماحته يدعو المفكّرين والباحثين وخاصة الشبابَ منهم لترويج هذه النظرية وتبيينها ويقول:
"روِّجوا نظرية المقاومة مقابل العدو القويّ وبيّنوها. نظرية المقاومة نظرية أصيلة وصحيحة، سواء على المستوى النظري أو على المستوى العملي، ويجب أن تروّج من كلا الناحيتين النظرية والعملية، وأنتم الشباب تستطيعون تبيين نظرية المقاومة هذه بشكل جيد جداً. من الناحية النظرية معناها أن تبيّنوا وتوضّحوا للجميع أنّ هدف الاستكبار هو السيطرة والهيمنة والتسلط على الشعوب، ومن الناحية العملية نعتقد أن تيار المقاومة هو حقُّ الشباب في العراق وسوريا ولبنان وفي شمال إفريقيا وفي مناطق شبه القارة وأطرافها، وتعزيز هذه التيارات وتعضيدها يعني تعضيد نظرية المقاومة" (كلمة الإمام الخامنئي لدى لقائه حشداً من طلبة المدارس والجامعات؛ 2018/11/03).
وعليه هذه الورقة البحثية محاولة متواضعة لتقديم ملخّص عن أطروحة الإمام الخامنئي حول مفهوم المقاومة وأسسها الفكرية وأركان منطقها وأبعاده، لتكون مدخلاً نظرياً لمنهج تربوي قائم على نظرية المقاومة.
مفهوم المقاومة
يرتبط تعريف الإمام الخامنئي لمفهوم المقاومة بخمس عناصر: اختيار الإنسان وإرادته، السير في الطريق الحقّ نحو الأهداف المتسامية، وجود الموانع والعقبات في الطريق، عدم التوقّف والانصراف عن مواصلة الطريق، وابتكار أسلوب عقلائي لتخطّي العقبات. بناءً عليه، عندما يختار الإنسان السير في الطريق الحقّ ويواجه الموانع والعقبات في هذا الطريق قد يستسلم وينكفئ عن مواصلة الطريق، وقد يُصرّ على ذلك فيجد طريقاً عقلائياً لإزالة الموانع واجتياز العقباتُ فيستمرّ بالسير نحو الهدف المتعالي. الفرضيّة الأولى هي الاستسلام والفرضيّة الثانية هي المقاومة.
فيقول سماحته: "معنى المقاومة أن يختار الإنسان طريقاً يَعُدُّه الطريق الحقّ والطريق الصحيح ويسير فيه، ولا تستطيع الموانع والعقبات صدّه عن السير في هذا الدرب وإيقاف مسيرته. افترضوا مثلاً أنّ الإنسان يواجه في طريقه سيلاً أو حفرة، أو قد يواجه صخرة كبيرة في حركته في الجبال حيث يريد الوصول إلى القمة، البعض عندما يواجهون هذه الصخرة أو المانع أو العقبة أو السارق أو الذئب يعودون عن طريقهم وينصرفون عن مواصلة السير، أما البعض فلا، ينظرون ويفكّرون ما هو طريق الالتفاف على هذه الصخرة، وما هو السبيل لمواجهة هذه العقبة، فيجدون ذلك الطريق أو يرفعون المانع أو يتخطّونه بأسلوب عُقلائي. هذا هو معنى المقاومة" (كلمة الإمام الخامنئي في الذكرى الـ30 لرحيل الإمام الخميني؛ 2019/06/04).
والجدير بالذكر أنّ «المقاومة» و «الصبر» في أدبيات الإمام الخامنئي مفردتان مترادفتان. ففي محاضراته التي كان يُلقيها في مسجد الكرامة في مدينة مشهد سنة 1973 (6 سنوات قبل انتصار الثورة الإسلامية) يتطرّق القائد إلى مفردة الصبر في الروايات الشريفة بهدف تصحيح مفهومه وإعادة تعريفه بنهج ثوريّ وبعيداً عن المفهوم الرائج للصبر والداعي إلى الانهزام وتكبيل الأيدي والخنوع أمام الطاغوت والاستسلام للواقع ويقول: "وفقاً لما يتمّ استحصاله من مجموع الروايات يمكن تعريف الصبر على النحو التالي: مقاومةُ السالكِ لطريق التكامل الدوافع الباعثة على الشرّ والفساد والانحطاط. فالصبر يعني الوقوف مقابل جميع هذه الموانع والعقبات ومقاومتها والعبور عنها والتخلّص منها بإرادة وعزيمة راسختين" (كتاب بحث حول الصبر؛ ص 24 و25). كما أنّه توجد مصطلحات أخرى قد يستخدمها القائد لتبيين مفهوم المقاومة، كالصمود والثبات والاستقامة.
عقلانية نظرية المقاومة وفطرية منطقها
على الرغم من محاولات البعض لتأطير المقاومة وتحديدها ضمن أطر طائفية أو حدود مذهبية، أو السعي للنيل منها وتشويه صورتها بدعوى ارتكازها إلى الانفعال العاطفي والمشاعر الزائلة أو الاندفاعات العابرة وعدم اعتمادها على أسُسٍ منطقية وواقعية، لا يعتمد الإمام الخامنئي في تبيينه لنظرية المقاومة على الأدلّة الشرعية النقلية کالقرآن والأحاديث فحسب، بل يؤكّد على البعد العلمي والمنطقي لها وحُسنها العقلي الذاتي، ويقول: "فضلاً عن أنّ القرآن يصرّح بهذه النظرية، فإنّ العقل السليم أيضاً يؤيّدها. مواجهة الظلم والدفاع عن المظلوم وعدم التعاون مع الظالم وعدم مساومته أمر يستحسنه كلّ عقلاء العالم" (كلمة الإمام الخامنئي في الذكرى الـ30 لرحيل الإمام الخميني؛ 2019/06/04).
فخلافاً لما قد یتمّ الترويج له بأنّ النزعة الثورية والمقاومة تعارض المنطق والعقل والعقلانية، نفهم من كلام القائد أنّه يقدّم نظرية المقاومة من منطلقات منطقية وعقلانية وعلمية، ومن الواضح أنّ هذه النظرة المتقدّمة تفتح آفاقاً جديدة لمفهوم المقاومة وتسهّل عمليّة توسعة جبهتها على مستوى الإنسان بما هو إنسان، بغضّ النظر عن دينه ومذهبه وعرقه، وسنشير إلى بعض مداليل هذه النظرة وآثارها.
ويقول الإمام الخامنئي أيضًا في هذا المجال "العدوّ الذي يتجنّب الإنسان العاقل الاحتكاك والاصطدام به ليس العدوّ الذي يستهدف هوية ذلك الإنسان ومصالحه الحيوية وأساس وجوده. مقاومة مثل هذا العدوّ حكم قاطع من أحكام العقل الإنساني، والاستسلام مقابله نقيض ما يحكم به العقل تماماً. إذ من البديهي أنّ الخسارة الأكيدة الناجمة عن الاستسلام لهذا العدوّ هي نفسها الخسارة المحتملة الناتجة عن مواجهته، مضافاً إلى الذلة والامتهان" (كتاب نظرية المقاومة؛ ص ۷۲). أي هناك طرح رياضي في فكر السيد القائد، خسارة محتومة، مقابلة خسارة محتملة، وعقليًا يجب التوجه للخسارة المحتملة وليس للمحتومة.
إنّ التعمّق في هذه النظرة العقلانية يستتبعه الاعتقاد بفطرية منطق المقاومة (بمعنى كون منطق المقاومة أمراً فطريّاً)، وهذا الاعتقاد بدوره سوف يؤثّر بشكل كبير جدّاً على التنظير لمنهج «التربية على المقاومة» بناءً على نظرية «التربية على الفطرة». فطرية منطق المقاومة يمكن تفسيرها من الناحية العقلية والأخلاقية؛ فهي تعني على المستوى العقلي أنّها من الأوّليات أو المعقولات بالطبع كما يعبّر عنها فارابي أو ما تُسمّى بـ«قضايا قياساتها معها» لدى ابن سينا، وهي القضايا التي يكفي لتصديقها تصوّر موضوعها ومحمولها، لأنّ الحدّ الوسط الضروري تصوّره فيها مركوز في الفطرة وثابت في الذهن أصلاً.
أمّا على المستوى الأخلاقي فيمكن القول أنّ الإنسان مفطور على المقاومة كما هو مفطور على قيم أخلاقية فطرية أخرى ك «الحياء»، فإنّها غريزة إنسانية وليست اكتسابية كما يعبّر عنها صدر المتألّهين الشيرازي، وكلّ ما في الأمر أنّها بحاجة للحفاظ والتربية والتقوية والتوجيه وليس التعليم من الصفر. فكلّ مولود يولد على فطرة المقاومة، ولكن عدم الاهتمام بهذه الموهبة الإلهية والإهمال في التربية المناسبة من قبل المعنيين قد يُبعده عن فطرته المقاومة أو يؤدّي إلى انحرافه عن الطبيعة البشرية وخروجه عن الجِبِلّة الإنسانية ليهبط إلى مستوى الخنوع والاستسلام. فالأصل هو المقاومة، والاستسلام هو الخروج عن الأصل والإنسانية.
وبناء على كلا التفسيرين العقلي والأخلاقي من فطرية منطق المقاومة، تكون نظرية المقاومة عالمية وإنسانية وعابرة للحدود، وليست طائفية أو مذهبية. وهذا هو سرّ جاذبية الإمام الخميني وعالمية ثورته وديمومة نهجه، إذ إنّ رسائله -ومنها المقاومة- رسائلُ فطريةٌ عالميةٌ ویخاطب فطرة الإنسان بما هو إنسان، والفطرة ثابتة لا تتبدّل ولا تتغيّر. بسم الله الرحمن الرحيم "فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ" (سورة الروم؛ الآية رقم ۳۰)، ويقول الإمام الخامنئي في بيان الخطوة الثانية للثورة الإسلامية بعد مرور أربعين عاماً من انتصار الثورة: "یُمکن افتراض مدّة زمنيّة معيّنة وتاريخ انتهاء صلاحيّة لکلّ شيء، إلا أنّ الشعارات العالمیة لهذه الثورة الدینیة مستثناة من هذه القاعدة، فهي لن تكون عدیمة التأثير والفائدة أبداً، لأّنّها متجذرّة في فطرة الإنسان في جمیع العصور" (بيان الخطوة الثانية للثورة الإسلامية ؛ 2019/02/13).
منطق المقاومة والرؤية الكونية التوحيدية
قلنا إنّ نظرية المقاومة نظرية عقلانية ومنطقية، ومنطقها فطريّ. فينبغي أن نبحث عن نقطة ارتكاز هذا المنطق الفطري ونبيّن ابتنائه على الرؤية الكونية التوحيدية وعلاقته بالأيديولوجية الإسلامية. فبحسب الإمام الخامنئي، إنّ نظرية المقاومة قائمة على الرؤية الكونية التوحيدية والأيديولوجية الإسلامية. لأنّ "كلّ الممكنات والموجودات تنبع من مكان واحد ومن مبدأ واحد و من قدرة واحدة خلقتها وأوجدتها وصنعتها، فالكلّ عبيد أمامها والكلّ أسرى قدرتها والكلّ ينبغي أن يطيعوها، فلا يحقّ لأحد أن يضع رأسه محلّ قدم شخص آخر، كما لا يحقّ لأحد أن يضع قدمه محلّ رأس شخص آخر" (كتاب الفكر الإسلامي على ضوء القرآن الكريم؛ ص ۲۰۳).
فهذه الرؤية الكونية الخالصة الفطرية تؤسّس للإطار النظري لنظرية المقاومة، إذ تقسّم العالم إلى صفّين؛ الصفّ الأوّل هو صفّ الله، والصفّ الآخر هو صفّ ما سوى الله. وهذا الصفّ الآخر يشمل جميع ذرّات العالم على حدّ سواء كعبيد لله، فتدعو الإنسان إلى العبودية المطلقة لله سبحانه وتعالى من جهة، وإلى رفض عبودية ما سوى الله من جهة أخرى. لأنّ الطاعة والتبعية والانقياد والاستسلام لما سوى الله -أيّاً كان؛ سواء الأهواء النفسانية أو الشياطين الخارجية أو الأنظمة المهيمنة والقوى الاستكبارية – تُعتبر عبودية الطاغوت وتتعارض مع الرؤية الكونية الأصيلة (كتاب الفكر الإسلامي على ضوء القرآن الكريم؛ ص ۲۰۰ و ۲۵۹).
أبعاد منطق المقاومة
في كلمته المهمّة بمناسبة الذكري الثلاثين لرحيل الإمام الخميني، بيّن الإمام الخامنئي خمس جوانب أساسية في منطق المقاومة، فنذكرها كما هي نظراً لأهميتها ونقوم بتلخيصها وعَنوَنَتها فقط:
1. طبيعية المقاومة: "إنّ المقاومة ردّ فعل طبيعي لأيّ شعب حرّ شريف مقابل العسف ومنطق القوة والظلم، ولا حاجة لسبب آخر. فأيّ شعب يعير أهمية لشرفه وهويّته وإنسانيّته، عندما يرى أنّهم يريدون فرض شيء عليه سوف يقاوم ويمتنع ويصمد، وهذا بحدّ ذاته سبب مستقلّ ومقنع".
2. إمكانية المقاومة: "إنّ المقاومة أمر ممكن، وهذا على الضدّ تماماً من التفكير الخاطئ للذين يقولون ويروّجون بأنّه لا فائدة من ذلك، وكيف تريدون أن تقاوموا؟ والطرف المقابل جبّار ومتعسّف وقويّ".
3. جدوائية المقاومة: "إنّ المقاومة تؤدّي إلى تراجع العدوّ، بخلاف الاستسلام. فإن تراجعتم خطوة إلى الوراء حين ممارسة العدوّ ظلمه وأعماله التعسّفيّة بحقّكم، فإنّه سيتقدّم بلا شك. والسبيل إلى ألّا يتقدّم هو أن تقاوموا وتثبتوا".
4. واقعية المقاومة: "إنّ للمقاومة تكاليفها على كلّ حال، وهي ليست عديمة التكاليف، لكنّ تكاليف الاستسلام مقابل العدوّ أكبر من تكاليف مقاومته. فعندما تستسلمون للعدوّ عليكم أن تتحمّلوا التكاليف".
5. عاقبة المقاومة: "لقد وعد الله تعالى في آيات متعدّدة من القرآن بأنّ أهل الحقّ وأنصار الحقّ هم المنتصرون في النهاية. والآيات القرآنية الكثيرة تدلّ على هذا المعنى. قد يقدّمون التضحيات لكنّهم في نهاية المطاف لا ينهزمون".
ركائز نظرية المقاومة
بناءً على المقدّمات المذكورة، يطرح الإمام الخامنئي ۳ أركان أساسية لنظرية المقاومة:
1. البحث عن الحقّ والمطالبة بالعدالة
إنّ منطق الثورة والمقاومة هو منطق البحث عن الحقّ والمطالبة بالعدالة، فالعدالة تعني إعطاء كلّ ذي حقّ حقّه، فكما يجب أن لا تظلم الآخرين ينبغي أن ترفض الظلم من قبل الآخرين أيضاً. نظرية المقاومة تنطلق من الحقّ ولتحقيق العدل في مقابل الظلم.
يقول الإمام الخامنئي: "هناك مفهومٌ عالميّ وحقيقة عالميّة وحقيقة بشريّة قد انطلقت من قبل الثّورة بحيث أن كلّ من يسمعها في العالم سيشعر بأنّه محبّ لهذ النّداء. فما هو هذا النّداء؟ هو عبارة عن مقاومة نظام الهيمنة والتسلّط، هذا هو نداء الثّورة. نظام الهيمنة هو نظام تقسيم الدّنيا إلى ظالمٍ ومظلوم، لكنّ منطق الثّورة هو منطق الإسلام: ﴿لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ﴾. فعلى امتداد البشرية وساحة وجود الإنسان، من ذا الذي لا يرضى بهذا النّداء ولا يحبّ هذا النّداء؟ لا تظلِم، ولا تُظلَم" (كلمة الإمام الخامنئي في لقاء قادة حرس الثورة الإسلاميّة؛ 17/09/2013).
2. النزعة التحرّرية والكرامة الإنسانية
يُعدّ التوحيد في الرؤية الإسلاميّة أساس حريّة الإنسان وكرامته، لأنّه كما ذكرنا لیس مجرد الاعتقاد بالله فحسب، وإنّما هو عبارة عن عبودیة الله ورفض عبودیة ما سواه، وهذا هو معنی الحریة؛ أن یتحرّر الإنسان من كلّ القیود غیر عبودیة الله. فهذه النظرة الدقيقة لمفهوم الحرّية والنزعة التحرّرية تؤسّس لمقاومة كلّ قوّة غير إلهية تريد السيطرة والهيمنة على الإنسان والمجتمع.
يقول الإمام الخامنئي: "إنّنا فی الإسلام نعتبر أنفسنا عبیداً لله، ولكن في بعض الأدیان یعتبرون الناس وأنفسهم أبناء لله. إنّ هذه مجرد مجاملة، فهم أبناء الله وعبید لآلاف الأشیاء والأشخاص! لكنّ الإسلام لا یقول ذلك، وإنّما یقول كُن ابناً لمن شئت، ولا ينبغي أن تكون عبداً إلا لله، فلا تكن عبداً لغیر الله" (كلمة الإمام الخامنئي في الملتقى الرابع للأفكار الاستراتيجية؛ 2012/11/13).
۳. قبول المسؤولية ومحورية التكليف
الركيزة الثالثة لنظرية المقاومة هي الاعتقاد بمسؤولية الإنسان وتحمّله للتكاليف، فهو مكلّفٌ إضافةً إلى كونه صاحب حقّ، وسبب المفاسد والمظالم في العالم هو القدرة المنفلتة غير المسؤولة. إلّا أنّ تلازم الحقّ والتكليف يضع الإنسان الحرّ المختار الشريف القادر والباحث عن الحقّ أمام مسؤولية صون حرّيته وحرّية المجتمع الإنساني الذي يعيش فيه. فلا يحقّ له أن يجلس ويتفرّج على الشياطين والطواغيت وهم يستعبدون الإنسان ويسترقّون الشعوب وينهبون ثرواتهم ويسيطرون على العالم، بل يشعر بالتكليف للنهوض والاستنهاض والقيام من أجل تحرير العالم من هيمنة المتغطرسين وحثّه على مقاومة الظالمين.
يقول الإمام الخامنئي: "هذه المقاومة ليست نابعة من عصبية جاهلية قاصرة النظر، بل ناتجة عن معرفة وأصالة وشعور بالمسؤولية. إنها مقاومة شعب عرف جيًدا هوية الساسة النفعيين في نظام الاستكبار العالمي وسلوكياتهم الجائرة المتكبرة المزيفة وثار ضد إرادتها المتجبرة مستلهماً معرفته وثقافته الإسلامية الغنية المتجذّرة. إنّها مقاومة واعية وإيمانية" (كتاب نظرية المقاومة؛ ص ۳۶).
خاتمة وتوصية:
اختصاراً وبناءً على ما تقدّم، نقترح على الباحثين في مجال التربية أن يدرسوا المقاومة انطلاقاً من كونها نظرية عقلانية ومنطقية وفطريّة، وهي قضية عالمية وعابرة للحدود والطوائف والقوميات، وموقف طبيعي للإنسان والمجتمعات البشرية المضطهدة. فالأصل هو المقاومة، وهي لا تحتاج إلى دليل وبرهان، والاستسلام هو الخروج عن الأصل، ولا يعضده أيّ منطق وفرقان. ولذلك نخلص من خلال التربية على المقاومة إلى هذه النتيجة الجوهريّة.
إنّ مسؤوليّة المعنيين بالشأن التربوي -سواء الوالدين أو أولياء المدارس أو المبلّغين أو وسائل الإعلام أو الحكومات أو غيرهم من المؤثرين- عبارة عن تعزيز التربية الفطرية المقاومة لدى الإنسان وتوجيهها وصونها في مقابل الهجمات التي تخدش الفطرة السليمة وتحاول جعل الخنوع والاستسلام والرضوخ أمام الظلم والهيمنة أمراً طبيعياً (كتطبيع الاحتلال وغيرها من النماذج) وواقعاً لا بدّ منه.
كما أنّ استخدام هذه اللغة الإنسانية المستندة إلى الفطرة في ترويج خطاب المقاومة من قبل المؤثرين ووسائل الإعلام ومخاطبة الضمائر البشرية بأدبيات عالمية مشتركة وبعيداً عن الطائفية والمذهبية يساهم بنحو كبير جدّاً في توسعة نطاق جبهة المقاومة في أرجاء العالم والتحاق الكثيرين بها. لذلك يقول الإمام الخامنئي: "في منطقتنا اليوم، تُعدّ المقاومة اللغة المشتركة بين الشعوب. والهزائم التي مُني بها الأمريكيون في العراق وسورية ولبنان وفلسطين وغيرها هي ثمرة مقاومة الجماعات والأحزاب المقاومة. وجبهة المقاومة اليوم جبهة قوية".
المداخلة رقم 2: (د. عبد الله قصير/ لبنان)
بدأ الدكتور قصير مداخلته حول نظرية المقاومة ودور الإعلام في التربية على المقاومة، بالتعريف اللغوي والمفاهيمي لمصطلح المقاومة، فقال:
ينسلّ المعنى عادةً من اللغة, وفي تتبع جذور "المقاومة" لغوياً تتخذ مصدرها في الفعل "قوّم" جذراً تستند إليه, ومن "القيام" إنطلاقة للنهوض وللوقوف باستقامة وعزم وثبات. والقيام نقيض الجلوس.
والفعل "قوّم" يعني أزال عوجه ودرأ خلله, فيقال قوّمه في الشعر إذا استقام وأتزن, وإليه تعود الاستقامة بمعنى الاعتدال.
ويقال استقام له الأمر, وقام واستقام إذا اعتدل واستوى, وقاومته في كذا: أيّ نازلته. فتغدوا المقاومة هنا على وزن المنازلة وهي المواجهة في الحرب, وتقوّموا في الحرب: قام بعضهم لبعض.
أما في المصطلح والمعنى السياسي فالمقاومة تعني الوقوف في وجه العدو أو الاعتداء سواء جاء من قوة أجنبية غازية أو داخلية مستبدة. وهي دفع للعدوان ورد فعل على الاعتداء, تتوخى إعادة الأمور إلى نصابها الصحيح وفق مقتضيات قواعد وموازين العدل والسواء والاستقامة بكل صورها وتجلياتها.
والمصطلح المتداول في أدبيات الفكر الإسلامي الحديث يرمز إلى الجهاد الدفاعي, والمقاومة تستند إلى فلسفة دفاعية وليست هجومية.
وهي في القانون الدولي تندرج تحت عنوان الدفاع عن النفس وتحرير الوطن الذي يتعرض للعدوان أو الاحتلال, أما في الفكر الإسلامي فهي تندرج وتستند إلى فرعين من فروع الدين وهما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله.
وهي أيضاً في الدائرة الإنسانية الأوسع, رد فعل غريزي فطري تلقائي لمن يقع عليه العدوان, وتاريخياً يعتبر حق الدفاع عن النفس قديم قدم الإنسان, وهو أوسع من الدائرة الشخصية ويدخل إلى الدائرة الاجتماعية, فالشعوب التي تتعرض أوطانها للعدوان أو الاحتلال يحق لها, بل يجب عليها بمقتضى الحفاظ على الكرامة والسيادة, العمل بالمقاومة بشتى أشكالها لاستعادة الحرية برد العدوان وإزالة الاحتلال وتحرير الأوطان.
ثمّ تطرّق لمفهوم شرعية المقاومة، فقال: لعل أحد أهم مصادر شرعية المقاومة تستمدها من إنسانيتها وفطرية الإنسان في الدفاع عن نفسه وعن ما يملك كون حرب المقاومة هي حرب دفاعية والهجمات التي يشنها المقاومون دفاعية بطبيعيتها ويقاتل المقاوم دفاعاً عن استقلاله وهو يريد الحفاظ على ما يملكه وليس أخذ ما يملكه الآخرين. فإن مسألة الدفاع عن النفس ودفع الظلم لدى جميع المفكرين والسياسيين هي مسألة حق من الحقوق البديهية الأولية, لذلك ضمن شعارات معظم حركات التحرير في العالم. ومن هنا تصبح المقاومة كمفهوم إنساني يرتبط بشرعية القائم من جهة ولا شرعية المعتدي (الظالم) من جهة أخرى وبتهديد الجماعة السائدة وتعرضها للاستباحة في لحظة ما من جهة ثالثة.
ثم أضاف لقد اعتبر جمال الدين الأفغاني "أن العدل قوام الاجتماع الإنساني وبه تستمر حياة الأمم وكل قوة لا تخضع للعدل فمصيرها إلى الزوال" وعليه, يصبح التمرد الفردي والجماعي هو الأداة الشرعية لدفع الظلم داخلياً فكيف إذا كان الظلم هو نتيجة عدوان خارجي؟!
وتتداخل الشرعية الإنسانية الغريزية مع الشرعية المستمدة من الكتب السماوية مع الشرعية التي تمنحها القوانين الوضيعة المكتوبة للأفراد والشعوب والجماعات.
وبالخلاصة:
إن حق المقاومة وشرعية هذا الحق تأتي من طبيعتها الإنسانية فضلاً عن الشرائع السماوية والأرضية الوضعية. وهي رد فعل طبيعي على انتهاك الاحتلال لكل هذه القوانين والشرائع, فهي رد فعل على خروج المعتدي على الشرعية السماوية والدولية وبالتالي هو عدو الإنسان والإنسانية (وبالتالي تصبح شرعية غير قابلة للنقاش باعتبارها حقاً مقدساً معتدى عليه).
بناءً على ما تقدم, تصبح ثقافة المقاومة جزء من المنظومة القيمية الإنسانية والإسلامية والوطنية والقومية تتلاقى حولها كل الشعوب بمختلف أطيافها وانتماءاتها العقدية والفكرية والايديولوجية.
وتتخذ أهمية بالغة في ضرورة حضورها في صلب كل الثقافات عند كل الشعوب والأمم التواقة إلى الحرية والسيادة والاستقلال والعدالة فهي تشكّل الضمانة الذاتية لتجسيد كل هذه الشعارات والمفاهيم القيمية وبدونها لا يمكن ضمانة بقاء واستمرار حرية الشعوب وسيادتها واستقلالها.
وتصبح التربية والتنشئة على المقاومة أحد أهم الأدوات الأساسية والمشتركة بين مختلف الشعوب والأمم, لغرس هذه القيمة في ثقافة الأجيال الناشئة لضمان استمرار حضورها في العقل والوجدان والممارسة الحياتية على كافة الأصعدة, ومختلف الساحات لانتاج نموذج الحياة الطبية اللازمة لبقاء الشعوب وعزتها وكرامتها وسيادتها واستقلالها.
أشكال المقاومة وساحاتها المتنوعة:
لا يقتصر مفهوم المقاومة وثقافتها على شكل واحد ولأسلوب محدد بل تشمل طيف واسع من الأشكال والأساليب والساحات فقد تم تصنيفها إلى عدة مستويات وأشكالها منها:
-
المقاومة الشعبية المفتوحة: وتأخذ صور متعددة كحرب العصابات أو مهاجمة مواقع العدو, أو العمل والمناوشات خلف خطوط العدو.
-
المقاومة السرية: وتعمل في الخفاء خوفاً من بطش سلطات الأعداء (كالمقاومة في فلسطين المحتلة داخل مناطق الاحتلال, ومقاومة النازية في أوروبا).
-
المقاومة السياسية والفكرية: ونقصد بها انتاج الخطاب السياسي التعبوي والترويج لشرعيتها وأحقيتها والتنظير لجدواها, وفضح مخططات العدو وتجاوزاته.
-
المقاومة السلبية: وتتمثل في المقاطعة وعدم التعاون مع المحتل.
-
المقاومة الثقافية والإعلامية: وهي ذات أهمية كبرى (حالياً على وجه الخصوص) وتساهم في التعبئة ضد المحتل بشتى الوسائل الإعلامية والفنية والأدبية وصولاً إلى الحرب النفسية ضده وغيرها.
وهنا ندخل إلى:
دور الإعلام في التربية على المقاومة: وماذا نقصد بها وكيف نجسدها ؟ ...
إذا كانت التربية هي عملية مستمرة تمهد للتشكل والتسامي المستمرين لهوية المتربي وتهدف لهدايته في مسار الاستعداد والتهيؤ للتحقق الواعي والاختياري في مراتب الحياة الطيبية بكافة الأبعاد الإنسانية لصناعة هويته على المستوى الفردي والاجتماعي.
وبناءً على ما ذكرناه بأن المقاومة هي قيمة إنسانية ودينية (جهادية) وقومية ووطنية, فإن التربية على المقاومة كقيمة نبيلة وضامنة ومدافعة عن العدالة والاستقلال والسيادة والحرية تصبح في صلب العملية التربوية الناجحة التي تسعى لتشكيل هوية المتربين وفاقاً لهذه القيم الإنسانية المشتركة ويبقى لكل جهة أو تيار فكري وأيديولوجي أن يختار المضامين العقائدية التي يؤمن بها ليستخدمها كدافع ومحرك في غرس قيمة المقاومة في العملية التربوية المستمرة.
فمثلاً في المقاومة الإسلامية – يشكل الجهاد ومعاييره الدينية السامية وتجسداته العملية تاريخياً وحاضراً من معركة بدر إلى كربلاء إلى ميادين القتال حالياً مع العدو, وصورة الشهيد كنموذج وقدوة فضلاً عن معاني الفداء والتضحية والشهادة كأسمى مراتب القرب من الله تعالى, تشكل الدافع والمحفز في العملية التربوية للمجاهدين والمقاومين. ويأتي دور الإعلام في هذه العملية التربوية ليشكل الناقل الجذاب والرافعة النشطة لكل هذه المعاني والقيم لإيصالها إلى المتربي بأساليب وأشكال متنوعة جذابة وسلسة, مصحوبة بكل مؤثرات الحماس والاقناع والوعد بالظفر والنصر.
ويمكن ذكر أبرز ما يمكن للإعلام أن يقوم به من أدوار في التربية على المقاومة وقيمها ونشر ثقافتها كالتالي:
-
تعميق قيم المقاومة والجهاد في الوعي والوجدان لدى الشباب وأهاليهم. بكل الأشكال والمنتجات الإعلامية (دراما / أناشيد / فلاشات / حوارات/ الصور/ ... الخ).
-
بث وتثبيت الروح الوطنية ووحدة الأمة والوحدة الوطنية والإنتماء للفكر الأصيل خصوصاً عند شريحة الشباب والشابات.
-
مواجهة الغزو الإعلامي والثقافي للأعداء وحلفاءهم من الاستكبار العالمي (عبر برامج خاصة بهذا الموضوع).
-
الانخراط المدروس في الحرب الناعمة, لتوعية الرأي العام المحلي والعربي والإسلامي ضد أدوات الحرب الناعمة التي تستهدف شعوبنا.
-
تحصين الأمة بالثقافة الأصيلة والمحافظة على الهوية التي تشكل أحد أهم أدوات المواجهة والمقاومة.
-
فضح مخططات العدو, ونشرها وتعريف الناس بها وبأهدافها الخطيرة.
-
زرع اليأس في قلوب الأعداء وممارسة الحرب النفسية ضدهم.
-
المساهمة في بث الثقة والاطمئنان في النفوس وزرع الأمل في القلوب بقرب الانتصار.
-
مواجهة التطبيع بمختلف أنواعه في وسائل الإعلام التقليدي والحديث، على سبيل المثال، التطبيع:
-
السياسي بكل مستوياته الرسمية وغير الرسمية. والاقتصادي بشتى أنواعه.
-
الثقافي والفني بكافة أشكاله ومسمياته.
-
الرياضي.
-
وأخطره التطبيع الديني (تحت عنوان الديانة الإبراهيمية – اتفاقية إبراهام).
-
ويبقى على الإعلام إلتزام الموضوعية والصدق والمصداقية وامتلاك الخبرات من المهارات والتطوير الدائم للأساليب والوسائل المستخدمة. والتركيز على وسائل الإعلام الحديثة, ومنصات التواصل الاجتماعي بكافة مسمياتها.
المداخلات والأسئلة:
عقب المداخلتين الأساسيّتين كانت هناك عدد من المداخلات من قبل الحضور:
مداخلة من قبل الدكتورة مهى أبو خليل (حضور):
أنا سعيدة جدًا بحضوري اليوم هنا، وبسماعي لهذا الكلام التربوي المقاوم من قامتين أساسيتين في المقاومة، وما ناديت به من فترة طويلة وهو بناء ثقافة المقاومة، والوعي على المقاومة، كما نبني سلاح المجاهد، فهذا ما أرى بأنه قد بدأ يتحقق، فمعركة الوعي والانتصار على العدو لا تتم فقط بالسلاح العسكري، بل بالتربية على المقاومة، وفي جميع المجالات التي تخدم هذه القضية.
سؤال من قبل (أحد الحضور):
أحيانًا يتم استخدام مصطلح الممانعة؟ ولماذا يتم استخدامه بدل مصطلح المقاومة؟
رد الدكتور عبد الله قصير:
الممانعة هي نوع من أنواع المقاومة، اي الامتناع عن الوقوع في المنزلقات التي ينصبها العدو. وسماحة السيد القائد (حفظه الله) إن قالوا عنا بأننا ممانعة، ففعلاً نحن ممانعين، وبالتالي فنحن ممانعين لعدم الوقوع في الأشراك التي ينصبها العدو لأمتنا.
آخر تحديث : 2024-06-12
تعليقات