د. باقر كجك*
الجسد حيثُ تظهر الهوية الثقافية للإنسان
قبل الدخول في فضاء التربية على العفاف، لا بدَّ من السكون قليلاً عند قضية الجسد الإنساني باعتباره المساحة المادية والملحوظة التي تتمظهر فيها كافّة أشكال السلوك الإنساني، ليس لدى الإنسان في كينونته الدنيوية غير هذا الجسد كجسر دائمي لإثبات هويته الوجودية، فكيف يكون موجودا في هذا العالم المادي دون جسد؟ كذلك، هو يحتاج الجسدَ لأجل كافة أنماط السلوك التي تعبّر في حقيقتها أيضاً عن تلك البنية الثقافية الكامنة فيه. قضية السلوك والفعل الإنساني، لا تنفكّ عن الجسد، للضرورة.
لقد عالجت أدبيات الفلسفة وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا قضيةَ الجسد الإنساني (كما في كتاب أنثروبولوجيا الجنس لهاستنغر دونان وفيونا ماغوان مثلا) بوصفه ساحةً لأكثر العمليات الثقافية تعقيداً، فاللغة، والفن، وأساليب التواصل، والسياسية، والاقتصاد، والدين، والسلوك الجنسي، هي تمظهرات الموقف الثقافي للفرد الإنساني والجماعة الإنساني من الذات والآخر والكون. يؤكد أبو لوز على أن الجسد الإنساني، مع كونه مكوّنا بيولوجياً، إلا أن تحديد الهويةِ الثقافية لهذا الجسد تخضع، إضافةً للعامل البيولوجي، إلى عوامل ثقافية واجتماعية وتاريخية شديدة التعقيد.
يقع السلوك الجنسي للإنسان هنا، وعلى عكس المتصور بداهةً، على رأس شبكةٍ معقدةٍ من البنى الثقافية مع كافة مكوناتها الوظيفية، وهذا ما كشفتْ عنه أدبيات أنثروبولوجيا الجنس في مراقبة ومدارسة طويلة الأمد للمجتمعات القديمة والحديثة، في أنَّ السلوك الجنسي تم تحميلهُ ذلك الكم الهائل من أشكال السلطة والقرابة، والبعد الاقتصادي والديني والسياسي والفني وغير ذلك. بل إن تصورات بعض الجماعات البشرية قديماً وحديثاً، لأنماط الاستمتاعات الجنسية أعادت ترتيب شكل الأسرة، والعلاقات بين أفرادها، وأنماط الانتاج الاقتصادي، ونحن نعلم أن تقسيم العمل -–في علم الاجتماع- باب عريضٌ لإعادة تحليل وتفكيك بنية المجتمع وفهمه وفق منطق عملاني مباشر.
يؤكد الباحث أبو لوز ، في مقاربته للسلوك الجنسي وارتباطه بالجسد أنه "تجري مقاربة مفهوم الجسد عادةً عبر خطاب علمي، يرتكز بشكل أساسي على البيولوجيا، أو ما يُعرف بالـ"المنطق-البيولوجي"، فيُصوّر الجسد كآلة طبيعية، محكومة بالهرمونات والجينات، حيث تصدر الفروقات الجنسية كنتيجة حتمية لهذه المعطيات، تتبعها ترتيبات هرمية اجتماعية تقسم الأدوار بين "الجنسين الطبيعيين". هناك نظرة أخرى مختلفة، تقارب موضوع الجسد بطريقة مغايرة، باعتباره سطحًا محايدًا تنطبع عليه الرموز الثقافية. أما النظرة الثالثة، حاولت دمج المقاربتين السابقتين، بالنظر إلى السلوك الجندري لدى الإنسان كنتيجة التأثير المشترك بين البعد البيولوجي والجانب الاإجتماعي".
ويقدم مثالاً لذلك في دراسة اثنوغرافية أجرتها أوريانكو أويوما لمجتمع اليوروبا النيجيري، أكبر المجموعات العرقية في نيجيريا، حيث رفضت هذا الخطاب العلمي الذي يتمحور حول البعد البيولوجي حصراً لدى الإنسان. أشارت أويوما إلى عدم وجود مفهوم الجندر كأساس للتقسيم الاجتماعي في مجتمع اليوروبا ما قبل الاستعماري. يقوم هذا المجتمع على ترتيبات هرمية لا تعترف بالتفريق الفيسيولوجي للجسم، بل يقوم على الأقدمية في العمر. أيضًا، تتسم المكانة الاجتماعية في تلك المجتمعات بنوع من السيولة، فهي ليست ثابتة وحتمية، فقد تجد في تلك المجتمعات امرأة محاربة ورجلًا يمتهن التمريض، خلافًا لفكرة الحتمية البيولوجية في الخطاب العلمي الغربي فيما يخص التقسيمات الجندرية لأفراده".
من هنا، أجدني مضطراً للتأكيد على هذا النوع من التفكّر والتأمل، الذي يبحث –قبل طرح أي بديل أو تأصيل الموجود- عن جذور الوقائع الاجتماعية والظواهر الانثروبولوجية الأساس، ودراسة كيف تقع السلوكيات البشرية الأولية موضعاً للاستغلال والتوجيه والتوظيف، ما يكشف بالتبع عن الفضاء الثقافي الذي يحكم هذا النوع من السلوك الجنسي –في حالتنا- أو يرفض ويقيد ويوسع من ذلك السلوك الجنسي الآخر.
الصراع على السلوك الجنسي بين التيارات التربوية
لقد انفتح مؤخراً باب الحوار والنقاش حول قضية التربية على العفاف ، كاتجاه تربوي يعبّر في عمقه عن بنىً ثقافية ومعرفية ونفسانية خاصة بالفضاء الاسلامي، عقبَ ما وصلتْ إليه البشرية حالياً من تداعيات خطيرة جداً على مستوى المواقف المتطرفة –في رأينا- التي اتخذتها المدارس التربوية العلمانية في العالم الغربي، من الجسد الإنساني والسلوك الجنسي المتصور بناء لمباني المدرسة العلمانية في تحيّزها غير المحدود بحدود عقلانية للفردانية وشبكة حرياتها المفرطة، ومحورية اللذةِ بناء للحرية الشخصية، وتجلّي كل ذلك في خيارات جنسيةٍ حرّة كسرت في سيرورتها المريرة المختلطة بقضايا النسوية تارة، والجندرة تارة أخرى، فضلاً عن نزعة الاستهلاك الثقافي الغربية الحادة الكاسرة للسياج الثقافي والديني والتاريخي لمختلف المجتمعات على الكرة الأرضية، هذه السيرورة كسرت أنماط الزواج التقليدي، ومفاهيم الذكورة والأنوثة، وفتحتْ باب الاستمتاع الجسدي واللذة على سلوكيات جنسية مخيفة. خصوصاً إذا استمرت في سقوطها الحر مستقبلاً من الزواج المثلي، والمتعدد، إلى تشريع العلاقة مع غير الانسان، والزواج من الدمى، إلى ظاهرة الكلاب البشرية كمظهر متطرف من هذه السيولة المرّة التي أصيبت بها المجتمعات العلمانية والغربية.
تدفع هذه الظواهر والمؤثرات والتداعيات على مستوى بنية السلوك الإنساني، خصوصاً مع عوامل القوّة الاقتصادية والسياسية والاعلامية والفنية التي تمتلكها هذه الدول التي تشكّل سطوة كبيراً تدفعها إلى فرض أجندات تربوية وثقافية على بقية الدول والمجتمعات من بوابة المؤسسات الدولية والمعونات الاقتصادية وصولاً إلى الضغط والتدخل الثقافي في المناهج والمؤسسات التربوية ووسائل الاعلام في هذه الدول من أجل تعديل وتغيير أنماط السلوك الجنسي وشكل العلاقات الزواجية في هذه المجتمعات.. يدفعنا هذا الأمر إلى إعادة النّظر بعمقٍ في البنى المعرفية والثقافية والأسس الدينية التي نؤمن بها والتي من شأنها صناعة رؤيتنا الخاصة إلى الجسد، وظائفه، السلوكيات الجنسية ووظائفها، وما يمكن تقدمه هذه السلوكيات من تنظيم للمجتمع المسلم والدفاع عنه في وجه الطروحات الخاصة بالتربية الجنسية في العالم الغربي التي كما ألمحنا قبل قليل تقوم على بنى نظرية وأيديولوجية وثقافية علمانية تمظهرت في سلوكيات شديدة التطرف قياساً للثقافة والدين والمجتمع الإسلامي الحاضر والمنشود.
إن امتلاك طرحٍ خاصٍ في قضية الجسد والتربية المتعلقة بالسلوكيات والفضاء الجنسي وشبه الجنسي الخاص بالمدرسة التربوية الاسلامية، تحت عنوان التربية على العفاف، يشكّل موقفاً عقلانياً وتربوياً شديد الأهمية لسببين: الأول، ذاتي، يتعلق بتماهي الفرد المسلم في سلوكه الجنسي الخاص والاجتماعي مع مبانيه الإيمانية . والثاني، لإيجاد مناعة ضد ثقافة الانحلال الجنسي.
فما هي قضية التربية على العفاف إذن؟
المقصود من التربية على العفاف هي ذلك النوع من التربية التي تمد الفرد بـالخبرات الصـالحة، والاتجاهات الصحيحة إزاء المسائل الجنسية، بصورة ما يسمح به نمـوه الجسـمي، والعقلـي والانفعالي والاجتماعي؛ مما يؤهله لحسن التوافق في المواقف الجنسية، ومواجهة المشكلات التي يمكن أن يتعرض لها مواجهة واقعية تؤدي إلى الصحة النفسية من تعلـيم للنـاس وتـوعيتهم، ومصارحتهم، وخاصة الأطفال الذين إذا شبّ الواحد منهم كانت عنده المعرفـة الكاملـة عـن القضايا الجنسية والغريزية؛ ليعرف ما يحلّ وما يحرم، وليفهم أمور الحياة، وليكون عنده السلوك الإسلاميّ المتميز، خلقاً له، وعادة، فلا يجري وراء شهوة، ولا يتخبّط في طريق الانحلال.
إنّ المحور الأساس الذي تدور عليه التربية الجنسية هـو إدراك المظـاهر الأخلاقيـة الحميدة للسلوك الجنسيّ، والعلاقات الصحيحة بين الجنسين، فيعرّف الفرد ما هو صحيح، ومـا هو خاطئ؛ والسلوك المتوازن الذي يرفع الإنسان إلى مدارج الكمال والجمال الإلهي وتحقيق مرتبة الخلافة الإلهية، بشرط أن يكون السلوك هذا سلوكاً إسلامياً لأن الإسلام هو السلوك السويّ الصحيح.
تهدف التربية على العفاف إلى بناء شخصية الفرد على المستوى الجسميّ والنفسيّ والجنسيّ والأخلاقيّ والاجتماعيّ؛ لتحقيق الأهداف التي يطمحون إليها، والقيام بالدور الملائم. ولا تهدف التربية الجنسية إلى إعطاء المعلومات فحسب، وإنما تتعدى هذا الهدف إلى ما هو أبعد منه؛ وذلك لإعداد الشباب للتعامل مع مراحل حياتهم الجنسية بنجـاح؛ ممـا يـزوّدهم بالخبرات الجنسية، والاتجاهات العاطفية السامية، والعادات الصحية المفيـدة. إذ يعـدّ الجـنس مدخلاً مهماً وخطيراً للقوى المعادية للإسلام، تحـاول من خلالـه أن تدخـلَ إلى الشعـوب والأفراد؛ لتبثّ سمومها، وتنشر أفكارها الهدّامة.
لكن هذا الطرح هو مبني على مجموعة من المقدمات:
أولاً: فهم موقع الغريزة الجنسية في التربية الاسلامية لقوى الإنسان
تبنى الحياة الإنسانية في المدرسة الإيمانية على معرفة القوى الموجودة في الإنسان، وإدراك الروابط بينها، وكيفية السيطرة عليها وإحداث التوازن المطلوب بينها، من أجل قيادة سفينة الإنسان إلى هدفها الأساس. وقد تصوّر الفلاسفة والعرفاء المسلمون النفس الإنسانية (أي النفس الناطقة الإنسانية، مقابل النفس النباتية والنفس الحيوانية) بأنواع مختلفة من التصورات، في ماهية النفس وجوهرها، وقواها، وعلاقتها بالجسد، وارتباطها بالروح والعقل والقلب، وغير ذلك. ولكن، ومع ذلك، يمكن استخلاصُ تصوّر مشتركٍ عن القوى التي تتصرّف في النفس الإنسانية، إذ فصّل الشيخ الرئيس انواع هذه القوى وإمكاناتها في كتاب الشفاء، وكذلك صدر المتألهين في مواضع كثيرة من مجموعة الرسائل الفلسفية وكتابه المبدأ والمعاد وغيرهما ، في أربعة قوى رئيسة: العقلية، الشهوية، السبعية، الوهمية.
يرى الشيخ النراقي في بحثه حول قوى النفس أنّها تنقسم إلى القوى التالية:
-
"القوة الأولى القوى العقلية الملكية ووظيفتها إدراك حقائق الأمور والتمييز بين الخير والشر والتفرقة بين الصالح والطالح والأمر بالأفعال الجميلة والنهي عن الصفات والأفعال الذميمة.
-
وظيفة القوى الثانية الغضبية السبعية صدور أفعال السباع من الإنسان كالغضب والبغضاء والتوثب على الناس وإيذائهم بمختلف أنواع الأذى.
-
وظيفة القوى الثالثة الشهوية البهيمية صدور الأفعال الشهوية البهيمية من عبودية الفرج والبطن والحرص على الأكل والجماع.
-
وأما وظيفة القوى الرابعة الوهمية الشيطانية استنباط وجوه المكر والحيل والتوصل إلى الأغراض الخبيثة بالتلبيس والخداع، هذا تمام الكلام في النقطة الأولى وظيفة القوى الأربع."
فالشهوة إذن، هي من القوى النفسية الرئيسة في التصور الإسلامي للنفس البشرية، وهي مسؤولة عن التحكم في الغرائز المرتبطة باشتهاء الحصول على اللذة في استمتاعات الفرج أي اللذة الجنسية وغيرها. وقد قرّر علماء وفلاسفة الأخلاق المسلمين أهميّة هذه القوة الشهوية في استمرار النسل البشري واعتدال المزاج والطبع البشري، وذلك فيما لو كانت هذه القوة خاضعةً لقوة العقل. و" فائدة القوى الشهوية البهيمية هي امتداد النسل بالنسبة إلى شهوة الجنس وامتداد الحياة للجسم بالنسبة إلى شهوة الأكل". كما أن "القوى العاقلة وظيفتها إدراك الأمور وتسليط القوى الغضبية على القوة الشهوية" إذ "ينتصر العقل باستعانته ببعض القوى ضد القوى الأخرى"، لذلك، يؤكد الإمام الخميني قدس على ضرورة الموازنة بينها، يقول الإمام: "فالموازنة هي أن يقارن الإنسان العاقل بين منافع ومضار كلّ واحدة من الأخلاق الفاسدة والملكات الرذيلة التي تنشأ عن الشهوة والغضب والوهم ـ عندما تكون حرة وتحت تصرف الشيطان ـ وبين منافع ومضار كلّ واحدة من الأخلاق الحسنة والفضائل النفسية، والملكات الفاضلة والتي هي وليدة ـ تلك القوى الثلاث ـ عندما تكون تحت تصرف العقل والشرع، ليرى على أيّ واحدة منها يصح الإقدام ويحسن العمل؟!."
ومن هنا فإن الإمام الخمينيّ قدس سره يؤكد على أهمية الحفاظ على القوة الشهوية تحت نور العقل فيقول: "لو تفكَّر الإنسان الواعي قليلاً في هذا الأمر لعرف بوضوحٍ كامل أنّ جنايته الحقيقيّة إنّما تقع إذا هتك ستر العفّة لهذه القوّة التي أنعم الله بها على الإنسان من أجل حفظ النّظام العائليّ، وتحقيق الكرامة والسّعادة له في الدّنيا والآخرة، فكيف يسخِّرها لغايات هي على الضدّ ممّا يُراد منها؟!"
وفي الروايةعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إنّ الله يحبُّ الحييَّ الحليم العفيف المُتَعفِّف".
إذن، فإخضاع الشهوة الجنسية لمنطق العفة، أي ذلك التحكم العقلاني الذي تقوم به القوة العاقلة في الانسان في تسخير هذه الشهوة الجنسية من أجل إيصال الإنسان إلى مدارك الكمال والجمال والعبودية لله تعالى هو امر مطلوب، خصوصا أن القوة الجنسية الشهوية إذا سيطرت على الإنسان فمن الممكن أن تتحكم في غضبه وعقله وتجعله يصل إلى أسفل مراتب الحيوانية.
لذلك يغدو البحث عن مؤشرات العفة والعفاف في الإسلام، في سبيل البحث عن حدود وماهية التربية على العفاف، ومن ذلك:
-
العفة من دلائل الإيمان
ففي الحديث عن أمير المؤمنين عليه السلام: "إنّ الحياء والعفّة من خلائق الإيمان، وإنّها لسجيّة الأحرار وشيمة الأبرار" ، فهذا الحديث يدلّ على أنّ "التّفاعل القلبيّ مع آيات حضور الله في الكون والحياة يجعل الإنسان معتدلًا في استعمال شهوته. وسرّ ذلك أنّ المؤمن الذي تعلّق قلبه بالله تعالى وتوجّه إليه سيجعل كل قوّة منحه الله إيّاها في سبيل الوصول إلى لقائه. وعندها لن يكون للشّهوة في حياته دور القيادة والسّيطرة. وهذا هو العامل الأهمّ في العفّة" .
-
العفة سلوك فطري
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "إنّ العفّة من الأمور الفطريّة الملازمة للفطرة السّليمة المخمّرة، وبالتّالي من جنود العقل، في حين أنّ الهتك من مقتضيات الفطرة المحجوبة ومن جنود إبليس والجهل. إذ إنّ العدالة في عمل كلّ قوة، وهي بمثابة جنس العفّة (وأصل ظهورها) هي أمرٌ فطريّ يقابله الجور، وهو ضدّ الفطرة السّليمة كما تقدّم سابقًا، مثلما أنّ الخضوع الكامل والتّبعيّة للكُمَّل هو أمرٌ فطريّ وما يقابله خلاف الفطرة.
كما أنّ العفّة نفسها والحياء والحشمة من الأمور الفطريّة التي جُبل عليها الإنسان، في حين أنّ التهتّك والفحشاء والوقاحة مخالفة لفطرة كلّ إنسان، لذلك فإنّ حبّ العفّة والحياء مخمّر في فطرة كلّ إنسان مثلما أنّ بغض التّهتّك وانعدام الحياء مخمّر فيها أيضًا" .
-
العفة من شيم الانتساب لولاية أهل البيت عليهم السلام
في الحديث المرويّ عن مفضل قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: "إِيَّاكَ وَالسَّفِلَةَ فَإِنَّمَا شِيعَةُ عَلِيٍّ مَنْ عَفَ بَطْنُهُ وَفَرْجُهُ وَاشْتَدَّ جِهَادُهُ وَعَمِلَ لِخَالِقِهِ وَرَجَا ثَوَابَهُ وَخَافَ عِقَابَهُ فَإِذَا رَأَيْتَ أُولَئِكَ فَأُولَئِكَ شِيعَةُ جَعْفَرٍ" .
وقال أمير المؤمنين عليه السلام: "وَإِنَّ لِكُلِّ مَأْمُومٍ إِمَاماً يَقْتَدِي بِهِ وَيَسْتَضِيءُ بِنُورِ عِلْمِهِ أَلَا وَإِنَّ إِمَامَكُمْ قَدِ اكْتَفَى مِنْ دُنْيَاهُ بِطِمْرَيْهِ وَمِنْ طُعْمِهِ بِقُرْصَيْهِ أَلَا وَإِنَّكُمْ لَا تَقْدِرُونَ عَلَى ذَلِكَ وَلَكِنْ أَعِينُونِي بِوَرَعٍ واجْتِهَادٍ وَعِفَّةٍ وَسَدَادٍ" .
-
معرفة طبيعة العفة
إن معرفة طبيعة العفة، ودورها المتوازن في الحياة المعنوية للإنسان، وأنها لا تشكّل مانعاً عن الوصول إلى أي مرتبة من المراتب الكمالية والوجودية للإنسان، هي أمر مهم وضروري، فعن الإمام الحسين عليه السلام: "أَنَّهُ قَالَ لِرَجُلٍ: يَا هَذَا لَا تُجَاهِدْ فِي الرِّزْقِ جِهَادَ الْغَالِبِ وَلَا تَتَّكِلْ عَلَى الْقَدَرِ اتِّكَالَ مُسْتَسْلِمٍ فَإِنَّ ابْتِغَاءَ الرِّزْقِ مِنَ السُّنَّةِ وَالْإِجْمَالَ فِي الطَّلَبِ مِنَ الْعِفَّةِ، وَلَيْسَ الْعِفَّةُ بِمَانِعَةٍ رِزْقاً وَلَا الْحِرْصُ بِجَالِبٍ فَضْلًا وَإِنَّ الرِّزْقَ مَقْسُومٌ وَالْأَجَلَ مَحْتُومٌ وَاسْتِعْمَالَ الْحِرْصِ جَالِبُ الْمَآثِمِ" .
-
العفة من ميادين الجهاد الأكبر
عن أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام قَالَ: "أَفْضَلُ الْعِبَادَةِ عِفَّةُ بَطْنٍ وَفَرْجٍ وَمَا من شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَى اللهِ مِنْ أَنْ يُسْأَلَ" . وعنه عليه السلام: "قالَ لَهُ رَجُلٌ إِنِّي ضَعِيفُ الْعَمَلِ قَلِيلُ الصَّلَاةِ قَلِيلُ الصَّوْمِ وَلَكِنْ أَرْجُو أَنْ لَا آكُلَ إِلَّا حَلَالًا وَلَا أَنْكَحَ إِلَّا حَلَالًا، فَقَالَ وَأَيُّ جِهَادٍ أَفْضَلُ مِنْ عِفَّةِ بَطْنٍ وفَرْجٍ" .
وقال عليه السلام: "مَا مِنْ شَيْءٍ أَحَبَّ إِلَى اللهِ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ مِنْ عِفَّةِ بَطْنٍ وَفَرْجٍ وَمَا مِنْ شَيْءٍ أَحَبَّ إِلَى اللهِ مِنْ أَنْ يُسْأَلَ" .
ثانياً: نظرة الإسلام للجنس مقابل بعض الاتجاهات المادية والدينية
-
أولاً: الرابطة الجنسية الموجبة للتكاثر، هي أمر تكويني نشأ بالأمر الإلهي الذي خلق هذا الوجود الإنساني على هذه الشاكلة من التكوين المضطر إلى إلى العلاقة الجنسية بين الذكر والأنثى من أجل دوام البقاء، يقول تعالى: "يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثيراً وَنِساءً" .
ولذلك فإن الرابطة الخاصة بين الذكر والأنثى هي ممّا تقتضيه أصل الخلقة، فيقول تعالى: "هُوَ الَّذي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها" .
-
ثانياً: الرابطة الجنسية محصورة بين الجنسين المتخالفين، أي بين الذكر والأنثى، يقول تعالى: "فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساء" ، ويقول أيضاً: "الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ..... وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنينَ غَيْرَ مُسافِحينَ وَلا مُتَّخِذي أَخْدانٍ" .
-
ثالثاً: كلّ رابطة جنسية بين غير الذكر والأنثى التي تنشأ بين المماثلين (الذكر والذكر، الأنثى والأنثى) هي من الشذوذ والانحرافات الخطيرة جدا ، ومن السلوكات الجنسية المحرّمات شرعا، يقول تعالى: {وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمينَ * إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} وقوله{ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمينَ} دليل على كونه انزياحاً عن خط الفطرة الأصيلة في المسار الانساني العام المتماهي مع الفطرة التي وجدت مع خلق الله للإنسان.
-
رابعاً: السلوك الجنسي هو أمر واقعي، يقرّ به الإسلام، ويخط له مجموعة واسعة من الأحاكم الشرعية، والضوابط الأخلاقية والقيمية، والجمالية، التي من شأنها جميعاً ضبط هذا السلوك الجنسي في ممارسة سليمة ومتوازنة بين الرجل والمرأة، إنما بشكل متوازن بين عدم الكبت وعدم الإشباع الشهواني من دون حدود.
-
خامساً: تبدو من جملة النصوص الإسلامية، أن عملية ضبط وتنظيم السلوك الجنسي، هي عملية مستمرة ومتداومة تبدأ منذ السنوات الاولى للطفولة ولا تنتهي إلا بموت الإنسان.
-
سادساً: العلاقة الجنسية هي من جملة خصائص الحياة الطيبة التي تشكل الإطار الكبير لنوع الحياة التي ينظر إليها القرآن الكريم، وهي قائمة على نبذ الخبيث من السلوكيات والمعتقدات، وطلب الطيب من كل شيء، ومنها هذا السلوك الجنسي في حال تم تعديله وفق النظام المعياري الإسلامي والتربية الاسلامية، يقول تعالى: "يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ ولا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدينَ" .
-
سابعاً: تهدف التربية الجنسية لتنظيم السلوك الجنسي بما يعزز الجانب العاطفي والمعنوي والنفسي في الحياة الزوجية والأسرية، يقول تعالى: "ومِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً ورَحْمَةً إِنَّ في ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ" .
ومن هنا نعلم أنّ هناك خصوصيات كثيرة لنظرة الإسلام إلى السلوك الجنسي المفترض وجوده عند الإنسان المسلم، من حيث طبيعته وأهدافه ووسائله وضوابطه. وهي في الحقيقة، ولابتنائها على الأسس الإيمانية لمدرسة الوحي والتنزيل الإلهي، تفترق في أسسها عن المدارس التربوية العلمانية والمادية المعاصرة التي تبتني قيمها الأخلاقية ونظرتها إلى الأبعاد التربوية للشخصية الإنسانية على قواعد فلسفية مادية، تفصل الإنسان عن الله. تصبح هذه الفوارق أكثر حدة ودقة وخطورةً، حينما نبدأ بتطبيق المباني الإيمانية على السلوك الجنسي مثلاً، عند الإنسان.
إن المدارس المادية المعاصرة يُرجع قسم كبير منها، فضاءَ السّلوك الجنسيّ إلى الحريّات الفرديّة والشّخصية للإنسان في حقّه بانتخاب ما يحبّ ويريد من السلوكيات الجنسية مع الجنس المخالف له أو الموافق له أو كذلك مع غير الإنسان مطلقاً من الحيوانات أو الأشياء المصنوعة أو الطبيعية في مشهد فريد للانحرافات الجنسية لم يسبق له مثيل من قبيل. لقد أدى ذلك، إلى اهتزاز كبير في القيم الأخلاقية التي كانت مبنية على نوعٍ من الاستقامة والفضيلة في الشخصية الإنسانية، في أوروبا القديمة والى الأمس القريب ربما بسبب السلطة القيمية والدينية طويلة الأمد التي كانت للكنيسة عليها وعلى المجمتع الأوروبي . ومع طغيان المدارس المادية والرأسمالية والبراغماتية الاجتماعية المعاصرة، انزاح الفضاء القيمي والأخلاقي للسلوك الجنسي من فضاء الدين –مهما كان- إلى فضاء الحريات الشخصية القائمة في جوهرها على أسس سلوكية أو براغماتية شديدة الفردانية والمادية. لذلك برزت سلوكيات جنسية متطرفة، آخذة في التطرف أكثر، مع انفتاح باب دخول التكنولوجيا الطبية في تعديل البنية التكوينية للجسم الإنساني، لإباحة العلاقات المثلية أكثر فأكثر، أو نقل الجنس إلى جنس آخر أو غير ذلك من التصرف في الجسد الإنساني.
ولقد أدت الحريات الفردية –في مظهرها المادي والغربي- إلى قيام الحضارة المادية المعاصرة، إلى تقنين وتشريع هذا النوع من السلوك الجنسي المتحرر في كافة أبعاده، على مستوى القوانين مرعية الإجراء، والأنظمة التشريعية، والمباني والأسس التربوية والمناهج التعليمية، والفضاء الاعلامي والفني الجمالي، وإقرار مسارات مستغربة في التعدي على "الطفولة" بعناوين الحريات الجنسية المتنوعة، وتدمير الأسرة، على سبيل المثال لا الحصر .
خاتمة
تظهر المدرسة التربوية الإسلامية، في هذا الميدان المتعلق بالتربية الجنسية، في التربية على العفاف، كمدرسة ضرورية لتمتعها بالثبات الدائم في القيم والتشريعات والفضاء المعنوي والنفسي والعاطفي الجمالي المتوازن، وفي كونها تنظم هذا السلوك الجنسي من أجل أهداف كلية واضحة، في مقابل العديد من المدارس المادية المعاصرة التي احدثت خراباً كبيراً على هذا المستوى.
وبالتالي، فإنّ مشروعية طرح التربية على العفاف، تظهر من خلال وجود تأكيد قرآني وروائي وعقلاني واضحٍ من خلال مصادرنا الإيمانية، ومن خلال المقارنة مع النتائج المدمرة لسلوك إفراطي تنتهجه المدارس التربوية المادية المعاصرة في توجيه السلوك الجنسي نحو مسارات متحررة ودون غايات إنسانية شريفة.
لتنزيل المقال بصيغة الـ PDF اضغط هنا
- الشيخ د. باقر كجك - أستاذ جامعي وباحث في مركز الأبحاث والدراسات التربية/بيروت
المصادر
-
القرآن الكريم
-
أبو لوز، عبد الله سامي، أنثروبولوجيا الجسد الذكوري، مقالة في موقع " ثقافة جندر/جنسانية جسد "، 21/01/2019.https://bit.ly/2C29a8T
-
الآمدي، تصنيف غرر الحكم، مؤسسة الاعلمي للمطبوعات،, 1987.
-
جمعية المعارف، دراسات أخلاقية الأخلاق المحمودة، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.
-
الخميني، روح الله، الأربعون حديثاً، دار التعارف للمطبوعات والنشر والتوزيع ، 2003، بيروت، الحديث الأول،
-
الخميني، جنود العقل والجهل، تعريب : العلامة أحمد الفهري، مكتبة الفكر الطبعة الأولى 1422 هجرية ، بيروت.
-
الدقاق، عبد الله، بحث الأخلاق، درس بحث خارج، قم المقدسة. https://www.eshia.ir/feqh/archive/text/daqqaq/akhlaq/38/390222/
-
الشريف الرضي، نهج البلاغة، المحقق محمد عبده ، دار الكتب العلمية، 2007، بيروت.
-
صدر المتألهين، محمد بن ابراهيم، تفسير القرآن الكريم ، تحقيق: خواجوى، محمد، بيدار، 1984، قم.
-
الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، مطبعة الخيام، 1403 ، قم.
-
المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج66، وزارة الإرشاد الإسلامي، الطبعة الأولى، 1983، قم.
-
النراقي، محمد مهدي، جامع السعادات،.
-
النوري، مستدرك الوسائل، مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، الطبعة الثانية، 2009.
-
دونان، هاستنغز، انثروبولوجيا الجنس ، المركز الأكاديمي للأبحاث، 2017، بيروت.
-
Education in Wholesome Chastity: National Federation of Catholic Physicians' Guilds' Position Paper on Sex Education, (1995). The Linacre Quarterly, 62(3), 54–64.
-
https://journals.sagepub.com/doi/10.1080/20508549.1995.11878316
-
Orr, Donald, "Premature Sexual Activity as an Indicator of Psychosocial Risk," Pediatrics, 87(2), pp. 141-147
-
Shalit, Wendy, A Return to Modesty: Discovering the Lost Virtue, New York: Free Press; Anniversary Edition, May 20, 2014. p. 26
آخر تحديث : 2024-06-19
تعليقات