الشيخ د. محمد باقر كجك
تشكل الكتابة في الفكر السياسي في الإسلام، والنظريات السياسية المتعلقة بطبيعة الحكم وإدارة المجتمع والبنى المعرفية المشكّلة للفضاء والحياة السياسية للمجتمع الاسلامي، واحدة من القضايا المعرفية والفكرية المعقدة والدقيقة جداً.
إن هذا التعقيد ناشئ من أمرين:
-
الأمر الأول، طبيعة الواقعة السياسية المعقدة على مستوى العالم والتجارب الانسانية التاريخانية أو المرتبطة بخط الوحي، وهذا ما تظهره البحوث الانثروبولوجية المعمّقة التي قام بها جورج بالاندييه (خصوصا في كتابه الانثروبولوجيا السياسية، ) في حفره تحت جذور الواقعة السياسية عبر التاريخ، ليظهر جانباً من شبكة العلاقات المكثّفة التي تشتغل في ما وراء الفعل السياسي، كالدين، والقرابة، وطقوس العبور، والعلاقات الاقتصادية، واللغة والفن، فضلاً عن الخلفية الثقافية الكامنة وراء كل فعل سياسي.
-
والأمر الثاني، وهو متعلق بخصوصية التاريخ الاسلامي، يكتنف اختلافات عقدية وفقهية ومنظومية كبيرة بين المذاهب الدينية التي تنتمي إليه، وتختلف في فهمها لتاريخ الإسلام، والسلوك التقعيدي المؤسس للنبي الأعظم (ص) لكافة أركان الدين ومدى حكومتهِ على المجمتع الإنساني وطبيعة هذه الحكومة.
اتجاهات في السلوك السياسي في الإسلام
لذلك، نجدُ في تاريخ الفقه والفكر السياسي في الاسلام، مذاهب شتى تنبئ في اختلافها وتنوعها عن حيرةِ العقل المسلم في تفسير ما يريده الإسلام من أتباعه في ما يخص سلوكهم السياسي.
بينَ اتجاهٍ لا سلطوي –قديمٍ/أعيدَ إحياؤه في كل حينٍ، حتى يومنا هذا- يرفضُ كونَ الدين الإسلامي له امتداد في الحكم السياسي، وهو يقتصر في تعاطيه مع الإنسان على البعد القيمي والتنظيمي لشأنه الفردي، فيما يترك قضية الحكم مفتوحة على احتمالات شتى، باعتبارِ أنّ السيادة الأخيرة ستكون للقيم والفضائل، فلم يتحمّل الدين مغبة الحكم؟ وهذا ما شهدناه في تيارات متنوعة من الخوارج، إلى المتصوفة، ثم اتجاهاتٍ حداثوية مفرطة في المرحلة المعاصرة تفكك بين الدين والسياسة.
وبين اتجاهٍ سلطوي، يعتقد بضرورة تولّي الدين الاسلامي الشأن السياسي للمجتمع، لاعتبارات شتى منها سلوك وسيرة النبي الأعظم في تحمّله القيادة السياسية للمجتمع المسلم، وصدور سلوكيات سياسية تنظيمية واضحة منه باتجاه داخل المجتمع الاسلامي حينها في فض النزاعات وفرض الضرائب وقودِ الجناة وتحسين البنية المادية للمجتمع والتصرف في الخراج وإعداد الجيش، ومنها السلوك السياسي الدبلماسي في العلاقة مع الآخر خارج المجتمع الإسلامي، الكافر والمشرك والكتابي، العربي وغيره. وهذا الاتجاه يحتوي بين جدرانه تيارات مختلفة ومتنوعة جداً على امتداد التاريخ الاسلامي، كما يذكر شيئا منها إبراهيم بيضون في كتابه "الاتجاهات السياسية في الإسلام الأول"، من حركة الخلفاء الثلاثة بعد وفاة النبي الاعظم، والحركة السياسية الفعالة للإمام علي عليه السلام الذي وضع أسساً فارقة لمدرسته السياسية عما سبقه ولحقه من الاتجاهات السياسية، إلى التيار الأموي والعباسي وبقية الدويلات والحركات والتيارات السلطوية التي نبتت في هيكل الأمة الإسلامية، واكتنفها على مدار التاريخ شيء كثير من الافراط والتفريط في الاقتراب من النصوص المؤسسة للدين الإسلامي، وتأويلات مشوّهة لها، فضلاً عن السلوك السياسي المتضارب بين اتجاه وآخر.
طرحُ ولاية الفقه
وفي هذا السياق، نجد أن طرح نظرية ولاية الفقيه، بعد مرور قرون متطاولة من الاتحاد العضوي بالواقعة السياسية عند الإمام علي وأبنائه الإمام الحسن والحسين عليهما السلام وابنه محمد بن الحنفية، وعدد من أحفاده كزيد بن علي ويحيى بن زيد، وافتراق حذر من قبل بقية أئمة أهل البيت عليهم السلام، في تعايش على حدّ الموت مع السلطة السياسية والزمنية في كل حينٍ، ثم افتراق الفقهاء المؤسسين لمذهب التشيع بعد غيبة الامام المهدي في مرحلتي الغياب الصغرى والكبرى، في اجتهادهم حول ما ينبغي فعله؟ التقية المتمادية وهجران الشأن السياسي وتركه في يد من يأتي من الحكام بانتظار عودة الإمام المهدي، في تناظر كبير مع المذاهب اللاسلطوية التي حوّلت التدين من واقعة مجتمعية إلى سلوك فردي وشبه فردي أثّر كثيرا في بنية الفقه الإسلامي والنظام الأخلاقي والقيمي على مدى التاريخ. أو الاقتراب من السلطة والسياسية متى سمح الظرف، كما فعل بعض فقهاء بني بويه والدولة الحمدانية والفاطمية والصفوية؟ أو التقدم خطوة أكبر من ذلك، والإمساك بالحكم السياسي والتنظير له على أنه واحدة من الوقائع والتمظهرات الأساسي للدين الإسلامي، تماماً كالذي نظّر له ودعا إليه الإمام الخميني في كتابه الحكومة الإسلامية حيث قام بالاستدلال، بأكثر من دليل عقلي واجتهادي، على بداهة كون السياسة شأنا دينياً متأصلا في الحياة الدينية للإنسان، وأنّ علمنتها يعني التخلي عن جزء وافر من الدين، فضلاً عن وفور الأدلة الروائية والتاريخية على أن السلوك السياسي للرسول الأعظم (ص) والأئمة عليهم السلام يؤسس لمشروعية سلوك أتباعهم ذات المسلك السياسي، وتوفير الحجية له.
بين يدي الكتاب
يشكّل البحث في ولاية الفقيه، النظرية السياسية المستجدة على الساحة الفكرية والسياسية العملانية، أمراً ضرورياً ومطلباً بحثيا وعلمياً دائماً. إذ أن هذه النظرية لم تبقَ في رفوف المكتبات، وبين يدي الباحثين فقط، بل كان لها أن تبصر النور في أكثر محطات التاريخ تعقيداً وحيويةً وتأثيراً في المستقبل، أي إنشاء الجمهورية الاسلامية بعد قيام الثورة الاسلامية في ايران سنة 1979 على يدي الإمام الخميني قدس. إذ حرّكت هذه النظرية عقول الباحثين داخل مدرسة أتباع أهل البيت عليهم السلام، ووجود تيار فقهي تقليدي ينحاز إلى نوع من التقية السياسية اللاسلطوية، في قبال التيار السلطوي. هذا الحراك الفكري والاجتهادي المستجدّ، في ظلّ المزيد من العولمة السياسية وتشكّل المنظومة السياسية العالمية وفق بنىً أيديولوجية وفلسفية وقيمية أكثر حدة ووضوحا وصرامةً، ومزيد من الصراع على الموارد الطبيعية والبشرية في عالمٍ آخذٍ في التهالك أكثر فأكثر في هوةِ النزاعات الدولية، يستدعي تحرّك الباحثين في الشأن السياسي والنظريات السياسية من أجل توسيع نطاق مشروعية هذا الطرح، والدعوة إليه، وتوسيع تطبيقاته المتنوعة في الحياة الإنسانية.
يجيء كتاب "ولاية الفقيه، جدلية العلاقة بين الدين والسياسة" للباحث الدكتور عبد الله قصير، في نوعٍ من التفكّر والتأمل في نظرية ولاية الفقيه، بادئاً من جذورها العقدية من باب "الولاية" كمبدأ إيماني مؤسس لبقية الظواهر والمبادئ داخل المعتقد الديني الإسلامي. ثم معرّجاً على مجموعة من المواصفات التي تشكّل أبعاد الولاية العقائدية والسياسية، وفلسفتها، ومواصفات ولي الفقيه ودوره. ومن جهة أخرى، يشرّح الكاتب بشكل موجز ومتناسق المراحل التاريخية التي يتصوّرها الكاتب عن مناشئ فكرة الولاية من النزاع على الخلافة بعد الرسول في أزمة السقيفة المؤسسة لمدارس سياسية اجتهادية متبانية، بين مرتكزات الالتزام بالنص والاجتهاد في إطاره، والاجتهاد مقابل النص. لربّما، كانَ احتياط فقهاء الشيعة المتقدمين في زمن الغيبتين، ناشئا من الخوف من كون الاجتهاد في شأن الولاية السياسية كمنصب سياسي للفقيه يشكّل انزياحاً ما عن النص واجتهاداً في قباله –وهو الأمر الذي أسّس لعدم الوقوع فيه كلّ الأئمة عليهم - ، ولذلك وجدوا الوقوف عند التقيةِ كسلوكٍ سياسيٍّ منصوصٍ عليهِ في الروايات، أحوط للفرد ولجماعة الشيعة من الالتزام بتجييرٍ اجتهاديٍّ الصلاحيات السياسية والقيادية المختصة بالامام للفقيه.
يوضح المسار التاريخي لتطور مسار الولاية في الاسلام، وهو في الحقيقة اصطلاحٌ جيد جداً من الباحث وفي موقعه في توصيف التبدلات البنيوية للعقل الاجتهادي الشيعي فيما يتعلق بالشأن السياسي للجماعة، كيف ظهرت مبررات طرح ولاية الفقيه من قبل الإمام الخميني(قدس) خصوصا بعد ثورة المشروطة والمستبدة التي تبدّت كنزاعٍ داخلَ العقل الشيعي قبل أن تكون مظهراً سياسياً بسيطاً لخلافٍ سياسي بين جماعة الشيعة.
ثم يقوم الباحث، بتقديم محاولة في التفكيك وإعادة الربط بين ما هو ديني، وما هو سياسي، في علاقة المؤسسة الدينية، بالسلطة، والفتوى الشرعية والحكم السياسي باعتباره نوعَ تطبيق لحكم شرعي أو مجموعة من الأحكام الشرعي التكليفية أو التدبيرية للمجتمع المسلك، كي يخلص في نهاية البحث إلى القضية التي شكّلتْ خاتمة طبيعية ومتوقّعة للمسار الثوري للإمام الخميني في مسار تطبيقه لولاية الفقيه على المجتمع، وهي قضية زمكنة النص الديني، وإحداث الموافقة بين المتغير والثابت في النص، وذلك نتيجة شائبة مزمنة من الجمود في الفقه الشيعي لازمته طوال قرون لانعزاله عن الحكم السياسي، واكتفائه بالأحكام الفردية والحسبية الضيقة فقط. هذه القضية الهامة، ستكون مدار نقاش وبحث طويل داخل أروقة الحوزات والمراكز البحثية واهتمامات الباحثين في فضاء نظرية ولاية الفقيه (أو ربما كذلك مخالفوها من الاتجاه التقليدي)، في محاولة البحث الجاد عن تطوير لأدلتها وبراهينها، وكذلك توسعة تطبيقاتها في منظومة العلاقات الدولية، والحقوقية، والاقتصادية، والقيمية، وغير ذلك حيثما ينبغي لولي الفقيه أن يبرزَ "سلطته" و"تدخّله" ويشرعن له حضوره كممثل عن الدين في تطبيقه له.
هذا الكتاب في فصوله الثلاثة والخاتمة، للباحث الدكتور عبد الله قصير، محاولة بحثية موجّهة للباحثين الشباب، والشباب الجامعي، والمهتمين بالتعرف على فضاء نظرية ولاية الفقيه، صدر حديثاً في نهاية عام 2022 عن دار المعارف الحكمية/بيروت.
آخر تحديث : 2024-06-19
تعليقات