Cancel Preloader
ندوات المركز

التربية بين محورية المربي ومحورية المتربي

  • 2022-12-05
  • 1754
التربية بين محورية المربي ومحورية المتربي

 

نظّم مركز الأبحاث والدراسات التربوية الملتقى التربوي رقم 9 للعام 2022 وذلك مساء الأربعاء بتاريخ 30 تشرين الثاني 2022 م، تحت عنوان [التربية بين محورية المربي ومحورية المتربي] (قدمه الشيخ الدكتور محمد النمر)

 

  • المداخلة رقم 1: محورية المربي بين الماضي والحاضر (د. مصدق الجليدي /تونس)

  • المداخلة رقم 2: محورية المتربي في العملية التربوية (د. حسين يوسف /لبنان)

 

بدأ الملتقى بمقدمة للشيخ الدكتور محمد النمر حيث أظهر بأنه مع التطور الحاصل في المناهج التربوية، وتغير الرؤية للعملية التربوية التعليمية من محورية المربي المعلم إلى محورية المتربي المتعلّم، وهذا ما غيّر من الوظائف المناطة بكل منهما، فحول هذه الإشكالية وهذه التغيرات سيتم عرض ونقاش كلتا الرؤيتين في الملتقى. 

 

المداخلة رقم 1: محورية المربي بين الماضي والحاضر (د. مصدق الجليدي /تونس)


بدأ د. الجليدي مداخلته بأنه سيقوم من خلال هذه المداخلة بالإجابة عن ثلاثة أسئلة تعلق بمحورية المربي.

السؤال الأول: السير التاريخي لمحورية المربي وأين أصبحت اليوم؟

المربي هو البيداغوجي أي الذي يقود الطفل إلى المدرسة ويختار له المناهج التربوية التي سيتعلمها، لتكوين رجال المستقبل. أما معلمه فدوره تلقينه المعارف والمهارات بالحفظ والتكرار والمران. 
وفي التراث التربوي الأصيل، برزت محورية المعلم من خلال ما أسندت إليه من آداب، هي عبارة عن ملامح لشخصية المربي وواجباته التعليمية والأخلاقية إزاء المتعلمين ، وهي على ثلاثة أنواع:

  1. آداب المعلم في نفسه: وهي آداب يجب توفرها في نفس المعلم ليكون قدوة للمتعلمين من جهة وتكون له قدرة تعليمية من جهة ثانية من خلال اتصافه بصفات أخلاقية، كالتحلي بالوقار، ودينية كتقوى الله تعالى، ومهنية كالتعلم المستمر.

  2. آداب المعلم في درسه: كالتهيؤ للدرس منذ البيت، بالتطهر والتطيب والتزين وتلاوة الأدعية والذكر، مع الإهتمام أيضًا بالامور التي تصب في الدرس مباشرةً كالتمكن من المواد التي يعلمها، والإجابة الفورية على أسئلة الطلاب، والتلوين الصوتي أثناء التعليم،..إلخ.

  3. آداب المعلم مع طلابه: من خلال ترغيبهم في العلم، وإقناعهم بالزهد، موراعاة الفروقات الفردية، والعدل بين الطلبة،..إلخ.

لكن هذه الآداب رغم تنزلها ضمن منوال تربوي تقليدي فإنها تبقى نموذجا مثاليا لم يرق إليه الكثير من المؤدبين والمعلمين. 


ومع ظهور الشكل المدرسي الكلاسيكي في أوروبا بالملامح العامة التي نشاهدها اليوم، بداية من القرن السادس عشر للميلاد، وانتشاره على مستوى عالمي بإقامة ظرف مكاني نسمية مدرسة ذات قاعات دراسية بها صفوف من المقاعد الدراسية مقابل السبورة ومكتب المعلم الأعلى قليلا من مستوى القاعة، وبإقامة ظرف زماني نسميه السنة الدراسية بجداول أوقاتها، وبإحداث نظام بيداغوجي يقوم على إلقاء المعلم لمعارف مقسمة وموزعة على مواد مدرسية بحسب سلم زمني معين، بظهور هذا الشكل المدرسي تكرست محورية المعلم بشكل مطلق ضمن منوال تعليمي تقليدي لفظي وتسلطي. المعلم في هذا الشكل المدرسي الكلاسيكي هو محور العملية التعليمية التربوية، فهذا الدور الطاغي للمربي ضمن المثلث البيداغوجي: معلم- متعلم- معرفة، ما زال رائجا إلى اليوم، رغم وجود محاولات لتجاوزه نحو طرق عمل بيداغوجية نشيطة وبنائية ولكنها تبقى محدودة الانتشار في أوساط المعلمين وتلقى مقاومة من طرفهم. 

 

السؤال الثاني: نقد هذه المحورية وهل تم الاستغناء عنها بالكامل في العملية التربوية؟


بعد قرون من سيادة الشكل المدرسي التقليدي على التربية، بدأت تظهر تعابير نقد واحتجاج عليه، بسبب طابعه الاصطناعي في التربية، الناتج عن فصل المدرسة عن العالم، وبسبب تقديم دروس  مفروضة عنوة من المعلم دون مراعاة استعدادات المتعلمين، والسبب الأخير هو الطابع الجامد للعلاقة التربوية التي هي عبارة عن علاقة عمودية تسلطية وجافة، ومن هنا يأتي الملل وكراهية الدراسة.


نتج عن هذا النوع السلبي من محورية المربي في العملية التربوية هدران كبيران: هدر معرفي وهدر قيمي: صحيح أن هنالك في هذا النمط التربوي تمرير وتملك لثقافة موسوعية ولكنها ظلت حكرا على ذوي المواهب في الحفظ، وصحيح أنه كان هنالك احترام وتوقير كبيرين للمربي، ولكنه احترام ناتج عن الخوف.

 

السؤال الثالث: كيف يمكن تعزيز دور المربي في المناهج التربوية الحديثة اليوم؟


يتموقع المربي في إطار مقاربة بنائية اجتماعية في ما سماه العالم الروسي ليف فيغوتسكي بمنطقة النمو الوشيكة. وهي منطقة تقع بين مستوى النمو الحالي للمتعلم ومستوى النمو الموالي الذي لا يقدر حاليا على الوصول إليه إلا بمساعدة من المعلم. وهذه المساعدة لا تتمثل في التدخل المباشر في حل ما استشكل على المتعلم، بل ببث مثيرات أو علامات إليه توجهه منهجيا نحو الحل وتوحي له بطريقة إنجازه إيحاء.  المعلم هنا ميسر للتعلم الذاتي مذلل لصعوباته. 


حيث توجد مرحلية متدرجة في العلاقة التعليمية- التعلمية لدى مواجهة مفهوم علمي جديد مرتب في المنهاج الدراسي: في بداية هذه العلاقة يكون المتعلم في حالة تبعية كاملة تقريبا للمعلم، لأن المعلم هو من يخطط للدرس الجديد وهو الذي يقترحه على المتعلم الذي يكون خالي الذهن منه أو لا يعرف عموما إلا عنوانه. وبعد طرح المعلم للوضعية- المشكل التي ينطلق منها مع منظوريه لبناء المفهوم العلمي الجديد الذي يمثل حلا منهجيا لذلك المشكل، يشرع المتعلم في البحث عن حل ويمارس استقلالية جزئية عن المعلم. وفي مرحلة أخيرة ينسحب المعلم من الوضعية التعليمية- التعلمية ليترك المجال واسعا لنشاط المتعلم المستقل. في هذه المرحلة يكف المعلم عن أن يكون المصدر الأول للمعلومة، ويصبح أحد مصادرها فحسب، يلتجئ إليه المتعلم عن طواعية وقتما يشاء كما يلتجئ إلى أي مصدر آخر، مثل الكتب والوثائق وشبكة الإنترنت.

 

هذا بإيجاز عن دور المربي في إطار التطور الحاصل في التربية والتحول من التربية التقليدية الفوقية والتلقينية إلى التربية الحديثة النشيطة والبنائية التي يحتل فيها المتعلم مركز العملية التربوية.  ولكن توجد أدوار أخرى للمعلم على الصعيد القيمي في سياق الغزو المتنامي للتقنيات التواصلية للفضاء التربوي، حيث يظل المتربي بحاجة إلى القدوة الأخلاقية والتوجيه الأخلاقي من المربي. ولن يشعر المتربي بالأمن النفسي  في غياب هذه القدوة الموجهة والمرافقة له، وتزداد هذه المهمة التربوية إلحاحا مع هذا الكمّ الهائل من المعلومات والصور المتدفقة بغزارة كبرى في شبكة الإنترنت، حيث يواجه الطفل والمراهق نماذج ثقافية وسلوكية وقيمية غريبة عن ثقافته وقيمه الأصيلة.

 

 

المداخلة رقم 2: محورية المتربي في العملية التربوية (د. حسين يوسف /لبنان)


بدأ د. يوسف مداخلته بأنّ محورية المربي هي التي كانت سائدةً قديمًا، أمّا نقطة التحوّل الحقيقية نحو محورية المتربي فقد مرّت بثلاث مقاربات بيداغوجية:


المقاربة الأولى كانت مع بيار بورديو 1966 م حيث انتقلنا من مرحلة إعطاء الحق في التعلّم إلى مرحلة تنويع وتكثير حظوظ التعلّم لكل طفل مهما كان وسطه الاجتماعي ورصيده الثقافي. وهذا ما أسّس لفكرة التربية الفارقية لدى لويس ليغراند 1970 م والتي تنحو نحو مركزية المتعلم، حيث على المدرسة أن تعمل منذ الصفوف الأولى على تصحيح التفاوتات التي تسجّل على مستوى النجاح المدرسي للتلامذة، وبالتالي مرونة عالية في التعليم بما يتناسب مع المتعلم واستعداداته وبناء لحقه الإنساني في الحصول على العلم، وحاليًا وصل المستوى التربوي لأعلى هذه الدرجات وذلك من خلال المدارس الدامجة، والتي تسعى للتعامل مع الفوارق بين التلامذة لكي لا تتحول هذه الفوارق إلى عوائق.


المقاربة الثانية قامت بالتركيز على دور المتعلم في إنجاح العملية التعليمية، وذلك من خلال تحول العملية إلى حالة من التفاعلية بين المعلم والمتعلم، لأن الدراسات التربوية بأكثرها أكدت أن العملية التلقينية في التعليم هي غير مجدية، ولهذا ظهرت فكرة التفاعل لردم الفروق الفردية بين المتعلمين بناء لذكاءاتهم وتفاعلاتهم المختلفة (سمعي، بصري، مندفع، مستهلك،..إلخ). 


المقاربة الثالثة ركزت على الأبحاث الدماغية وعلوم الأعصاب من خلال العمل على بناء مهارات التعلّم باستقلالية لدى المتعلّم، على قاعدة أن الهدف الأساسي هو الوصول إلى بناء مهارات التعلم المستدام مدى الحياة (من خلال التعلم المنظّم ذاتيًا)، فهنا أصبح الدور الأساس للمعلم هو إعداد الأرضية ولم تعد الفكرة التعليمية قائمة على ضرورة التواصل المباشر بينهما، فأصبح المتعلم مشاركًا في عملية تنظيم التعلم من خلال اختيار ما يشبه توجهاته وذكاءاته، واختيار المواقف والاستراتيجيات التي تناسب أنماطه التعلميّة. ومن أساليب التعلّم المنظم ذاتيًا: التعلم المبرمج، والتعلم بالحقائب والروم التعليمية، التعلم بالوحدات المصغرة (المجموعات)، التعلم التعاوني الناشط. وكل هذه الأساليب ساهمت في إتاحة الفرصة للمتعلم لبناء مهارة اتّخاذ القرارات وحلّ المشكلات، وهذا ما فتح المجال على مصراعيه لمرحلة التعلم من بعد E-learning.


المقاربة الرابعة بعد هذه المقاربات الثلاث الأولى أتى وباء كورونا وأظهر عجز المقاربة الثالثة تحديدًا وهذا النمط من التعلّم الذاتي عبر المنصات، وخاصةً في المراحل التعلميّة المدرسية الأولى، ليس فقط بسبب غياب الإستعدادات لدى المتعلم، بل بسبب غياب ركنًا أساسيًا من الدعم والمساندة الإجتماعية والتعليمية التي يقدمها المعلم، وبالتالي ظهر غياب نجاح النمط الذاتي بالتعلّم.


المقاربة الخامسة هي المقاربة الليبرالية، والتي ارتبطت بالمنصات التعليمية والتعلّم الذاتي، وهو ما ترتب عليه عدّة أمور، منها:

  • التعلّم من خلال المنصات شكّل فرصةً لهذه المنصات لتجاوز السياق المحلي، فأصبح صاحب القدرة الأعلى على الغنتاج وبناء المنصات التعليمية وخلق المكتبات الإلكترونية، هو من يغزو المجتمعات التربوية والتعليمية الخرى دون الحاجة للمرور من خلال السياقات المحلية.

  • معايير التقويم العالمية بيزا وغيرها، تركز على قياس اللغات والعلوم، وهذا ما أدى لإقصاء باقي الاهتمامات (المهارات الرياضية، المهارات التواصلية،..إلخ).

وأخيرًا ختم د. يوسف مداخلته بالقول، إن القضية التربوية في محورية المتربي تتصل بالمضمون والتوريث الحضاري، فالغرب قدّم البعد المادي في الحضارة على البعد المعنوي فيها، بفعل جدلية العلم والتكنولوجيا، فركّز على القضايا المادية وأهمل كل ما يتصل بباقي الأبعاد.
ومحورية المتربي هي ببعد عميق جزء من محورية الحرية، من خلال إعطائه حرية الاختيار وعدم فرض الخيارات عليه. وعندما أصبحق قضية التوريث الحضاري في الغرب قائمة على أن المدرسة لها دور أساسي وظيفي تسليعي، وبالتالي تمّ إقصاء البعد التربوي الأسري والمدرسي معًا، وهذا ما يساهم بالموجة العامة الشاملة لعملية الاستتباع الحضاري، ويكون هذا الاستتباع قائم على محورية المتربي الفرد الذي نريد تكوينه على حساب محورية المربي. 


وبالتالي فالبديل التربوي الحضاري يكمن في القواعد التربوية الإسلامية التي تمتلك الإجابات والقيم والحلول لكل هذه الهواجس العالمية التي تناقش جدلية التربية ما بين المربي والمتربي.

 

المداخلات:


عقب المداخلتين كانت هناك عدة مداخلات:

  • د. كمال لزيق: أشعر أننا عندما نطرح أنفسنا كبديل حضاري يجب ان نظهر من خلال نظرية حقيقية، من خلال التحول من جبهة الإنفعال (التصدي) لجبهة الفعل (الهجوم الإيجابي).

  • نائب مدير عام المركز د. يوسف أبو خليل: حيث أشار بأن أحد همومنا في مركز الأبحاث والدراسات التربوية هو دراسة جدلية العلاقة بين محورية المربي ومحورية المتربي، والذي ينطلق من فلسفة التربية. ولفهم فلسفة التربية الليبرالية البراغماتنا علينا فهم بنيتها القائمة على إسقاط المقدس من خلال إسقاط محورية المربي، فجعلوا التربية هي التعليم المادي فقط (أصبح موضوع تقني)، فالجانب المادي بالنسبة لهم هو المهم فقط، دون وجود أي مراعاة أو قيمة للجانب الأخلاقي، وهو ما يتعارض مع فلسفة التربية الإسلامية الأصيلة التي اعتبرت أنّه من أسس الحفاظ على التربية هو الحفاظ على المربي، فمحورية المعلم والمربي القدوة هي محورية أساسية في النظرية التربوية الإسلامية، ولا استكمال للتربية من دونها.

 

وقد عقّب الضيفان بالإشارة إلى:


د. يوسف:
أشار إلى أن أول خطوة في البناء الحضاري التربوي الإسلامي تكون من خلال اعتمادنا على ذاتيتنا، فليس من الصحيح أن نبني طموحاتنا على الأرضية المفاهيمية للحضارة الغربية، وهذا ما يحتاج إلى جهد كبير يكون بشكل تدريجي انطلاقا من تفكيك قدسية هذه المنظومة التربوية الغربية، والبناء انطلاقًا من تأصيلنا الإسلامي. فعلينا ان نؤمن بأن الحضارة الغربية باتت في مرحلة الانحدار، وأهم شاهد على هذا الانحدار هو مستوى التفكك الأخلاقي القيمي الذي تشهده هذه الدول التي تتبع هذه الحضارة، فالغرب بات يحطم نفسه بنفسه.

د. الجليدي: 
صرّح بأنه لا يتّفق مع د. يوسف حول انحدار الحضارة الغربية بأنها باتت مسألة وشيكة، فهل أخلاقنا وتصرفاتنا ومشروعنا الذي هو خير أمة أخرجت للناس، هل هو مشروع يطبّق في الواقع العملي الإنساني، فلا أظن بأننا مؤهلين حاليًا للقيام بهذا الدور.
والبراغماتية بمعنى الفاعلية مطلوب إسلاميًا، من ناحية تكديس المعلومات واستثمارها وإلاّ فلا قيمة لجمع المعلومات بحدّ ذاتها.


ومع عدم إغفال الجمع بين النجاح والقيم الأخلاقية، حيث تكون القيم دومًا هي الشرط الأعلى والقيمة الحاكمة، وإلا سنصاب بما أصاب الغرب.

د. يوسف:
وبناءً على تعقيب د. الجنيدي ردّ د. يوسف بأنه عندما قال بأن الحضارة الغربية هي في مرحلة الإنحدار لم يقصد بأنها ستنهار غدًا، ولم يقل بأننا جاهزون لاستلام زمام المور بشكل مباشر بل يجب ان نعمل كي نكون جاهزين لهذه اللحظة.


فالموضوع يرتبط بمدى ثقتنا بفعالية المكنون الحضاري للحضارة الإسلامية، وهو ما يعطي لهذه الحضارة معايير مستدامة على حساب باقي الحضارات الهائمة على معايير البراغماتية، فلسيت المشكلة عندما تكون البراغماتية ضمن السياق، ولكن المشكلة تمكن عندما تكون البراغماتية هي السياق.

 

لمشاهدة الندوة بشكل كامل من خلال الرابط الآتي: https://youtu.be/59ek4dtdm1c

 

 

 

 


 

آخر تحديث : 2022-12-08
مشاركه في:

تعليقات

اترك تعليقك هنا