القدوة والأسوة في التربية الاسلامية
د. يوسف ابو خليل*
كثر الحديث مؤخرا في التربية عن أهمية القدوة والاسوة ، وان على المتربي أن يكون له نموذج انساني يتأسى ويقتدي به، في هذه السطور سوف يشار الى خصائص المقتدى به وصفاته ومن يجب أن يكون.
إذا رجعنا إلى القرآن الكريم والآيات الكريمة التي تحدثت عن الأسوة والقدوة، نجد في سورة الأنعام الآية (90): (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ)، يتحدث القرآن الكريم عن الأنبياء والرسل أجمعين، ويدعو الناس إلى الاقتداء بهديهم، ومن الملفت أنه لم يدع إلى الاقتداء بهم في كل النواحي، وهذا إن دل فإنه يدل عن التحلي بالهدى الذي هم عليه، ولا يعني ذلك أبداً أنه لا يجب الاقتداء بهم في الأمور الأخرى، بل لعله يدل على أن الشرائع التي أرسلوا بها لم تتم ولم تكتمل الرسالة الإلهية.
وفي أية أخرى وردت في القرآن الكريم أيضاً، والتي يشير الله عز وجل فيها إلى النبي إبراهيم عليه السلام والذين معه حيث يجعلهم أسوة التوحيد والبراءة من المشركين ومما يعبدون من دون الله. حيث قال تعالى في سورة الممتحنة الآية (4): قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ...
وفي سورة الممتحنة آية (6) يأتي الخطاب الإلهي الذي يشمل الأنبياء والرسل كافة، ليدعو الناس إلى التأسي بهم حيث يقول سبحانه وتعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِر...
أما في سورة الأحزاب ، فقد خص المولى عز وجل النبي محمد(ص) في آية خاصة قيدت برجاء الله حيث قال عز وجل: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً .
القدوة والأسوة
يعتبر الاقتداء من أهم الأساليب التربوية في الاسلام، ولقد بينت ذلك في الحديث عن فلسفة النبوة، لأن الإنسان دائما يحتاج إلى نموذج يتبعه ويسير بنهجه، هو الذي يقتدي ويحتذى به من حيث جعله أسوة ومثالاً ونموذجاً لتصرفات وسلوكات الآخرين وجاء في لسان العرب: يقال قدوة لما يقتدى به، وقال أيضاً: القدوة ما تسننت به.
والاقتداء هو اتباع شخص في فعله واعتقاداته وفلسفته، على اعتبار أن المقتدى به هو في درجة أعلى في التكامل من المقتدي وأرقى منه منزلة، ومن ميزة الاقتداء هو الإتباع الاختياري والإرادي لشخص ما، فهو يعبر عن قناعة وميل ورغبة المقتدي باتباع المقتدى به، وقد يتشابه الاقتداء بالتقليد ولكن التقليد قد يكون بالإلزام وعدم الاختيار أما الاقتداء فهو دائماً يعبر عن حرية وإرادة المقتدي، ورغبة المقتدي في اتباع قول وفعل المقتدى به.
والقدوة ترادف الأسوة، ومنهم من خصص الاقتداء بجانب واحد دون جوانب أخرى، لذلك جاء في القرآن الكريم: فبهداهم اقتده، أي عليك أن تتخذهم قدوة في الهداية، واعتبروا أن التأسي يكون في مختلف الجوانب الإنسانية، وقد وردت آيات تدعو للتأسي بالأنبياء في أية، وأخرى بالنبي إبراهيم (ع)، وآية خاصة بالتأسي برسول الله (ص). ولم نجد من فرق بينهما في قواميس اللغة بين المفهومين، أي القدوة والأسوة، وقد اعتبرتا مترادفين.
وتختلف أنواع القدوة والأسوة باختلاف الحيثيات، ويمكن تقسيمها إلى اقسام مختلفة:
تقسيم من حيث الكمال، نجد ان هناك نوعين من القدوة
-
القدوة التامة
قدوة أو أسوة من جميع الجهات ومن جميع الأبعاد الإنسانية، وهم رسول الله (ص) والأئمة المعصومين عليهم السلام، والذين يشكلون المصداق الحقيقي للإنسان الكامل. ومن هنا تجدر الإشارة الى أن الاستنان بسنة الرسول (ص) واهل بيته (ع)، تشمل فعل وقول وتقرير المعصومين، ويشكل هذا نموذج للاقتداء التام. -
القدوة الناقصة:
وهي عبارة عن الاقتداء بالإنسان الصالح، فقد يكون عالما أو أبا أو أما أو...، فيقتدي المتربي بهم من الجانب التكاملي في شخصيتهم، ولا يمكن أن يقتدي بهم في كل الأبعاد، لأنهم غير معصومين فيها. وعندما يقال لفلان العالم قدوة فهذا يعني الاقتداء به من حيث العلم، وهذا لا بأس به، ولا ينسحب هذا الامر على مختلف حياته الشخصية والعملية، فعندما نقول المعلم القدوة، نقصد به المعلم الذي يتمتع بصفات وخصائص معينة، تساعد المتربي في الوصول الى بعض كمالاته، ولا نعني به أن يكون المربي معصوما، أو متكاملا في مختلف الابعاد الإنسانية، وهذا ما يعبر عنه أمير المؤمنين (ع) في قوله: " أَلاَ وَإِنَّ لِكُلِّ مَأمُوم إِمَاماً، يَقْتَدِي بِهِ، وَيَسْتَضِيءُ بِنُورِ عِلْمِهِ ،أَلاَ وَإِنَّ إِمَامَكُمْ قَدِ اكْتَفَى مِنْ دُنْيَاهُ بِطِمْرَيْه، وَمِنْ طُعْمِهِ بِقُرْصَيْهِ، أَلاَ وَإِنَّكُمْ لاَ تَقْدِرُونَ عَلَى ذلِكَ، وَلكِنْ أَعِينُوني بِوَرَع وَاجْتِهَاد، وَعِفَّة وَسَدَاد." -
القدوة والأسوة من حيث الكيف: الاسوة أو القدوة قد تكون حسنة، وقد تكون سيئة.
ا. الأسوة الحسنة: فالأسوة الحسنة، تكون في الأنبياء وجميع المعصومين عليهم السلام، فإن المتأسِّي بهم، سالك الطريق الموصل إلى كرامة اللّه، وهو الصراط المستقيم.
وهذه الأسوة الحسنة، إنما يسلكها ويوفق لها، من كان يرجو اللّه، واليوم الآخر، فإن ما معه من الإيمان، وخوف اللّه، ورجاء ثوابه، وخوف عقابه، يحثه على التأسي بالرسول (ص). ومن مميزات القدوة الحسنة:
-
إن القدوة أو الأسوة الحسنة تثير في نفس الإنسان قدرًا كبيرًا من الاستحسـان والانجذاب.
-
إن القدوة الحسنة تجعل الإنسان على قناعة بأن بلوغ هذه الفضائل من الأمور الممكنة ولو لم تحصل كلها.
-
إن من طبيعة البشر وفطرتهم التي فطرهم الله عليها : أن يتأثروا بالمحاكاة والقدوة.
-
إن أثر القدوة عام يشمل جميع الناس على مختلف مستوياتهم ، فبإمكان كل امرئ أن يحاكي فعل غيره ، ويقتدي بسيرته ولو لم يدركه .
ب. أسوة سيئة.: أما الأسوة بغير المعصومين، في حال مخالفتهم، فهو الأسوة السيئة، كقول الكفار حين دعتهم الرسل للتأسِّي بهم، بأنهم لن يخالفوا ما وجدوا عليه آبائهم، "فمن ضل عن سبيل الله لا جرم انه سيقتدي بالضالين، وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ " ، وتكون الاسوة السيئة بغير هدى، وهنا يكون الاقتداء الأعمى بدون حجة أو برهان وقد جاء في القرآن الكريم:"بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ"
- الأسوة من حيث الشخص أو النهج
قد تكون الأسوة شخصا ما، بحيث يشكل هذا الإنسان نموذج عملي يتبعه المقتدي في بعض الحالات التكاملية عنده، وقد يكون الاقتداء بالنهج الذي يسير عليه المقتدى به، وكلما كان اقتراب المقتدى به بالرؤية الوجودية للمقتدي، كان أكثر شدةً وأكثر تأثيراً، ولكن في مسألة القدوة التامة والإنسان الكامل لا يوجد اختلاف بين النهج والمقتدى به، لأنهما متساوقان، وقد عبر رسول الله (ص) بذلك عندما قال بحق أمير المؤمنين (ع): علي مع الحق والحق مع علي، وهذه اشارة إلى أن القدوة التامة والنهج القويم لا يختلفان ولا يتخلفان، فقد نفهم أن علي (ع) هو مع الحق ولقد مدح الرسول (ص) كثير من الصحابة بأنهم مع الحق، ولكن عندما يقول الحق مع علي (ع) فهذه اشارة إلى عصمة الامير (ع) ، وليس صحيحا ما يدعيه البعض من أن عصمة الائمة عليهم السلام جاءت متأخرة، وورد في مسند ابن حنبل عن رسول الله (ص) انه قال:" يا علي أنه من فارقني فقد فارق الله، ومن فارقك فارقني." فاذا كان النبي (ص) هو القدوة التامة، فإن هذين الحديثين انما يدلان على تعيين القدوة التامة من بعده. واذا كان رسول الله لا ينطق عن الهوى، وهو كذلك، فهذا يعني أن النص النبوي قد عين الولي والامام والقدوة والاسوة من بعده. وعن الإمام الصادق عليه السلام انه قال: " لا طريق للأكياس من المؤمنين أسلم من الاقتداء لأنه المنهج الأوضح والمقصد الأصح.
بناء على ما تقدم، يجب التمييز في التربية بين القدوة التامة والقدوة الناقصة، فلا يجعل المربي نفسه قدوة سواء كان معلماً أو أباً أو أماً... وهنا يجب مصارحة المتربي في أننا (اي المربين) قد نمتلك صفاتا كثيرة نطلب من المتربي أن يتعلمها، ولكن ما زال لدينا كثير من النقص فيجب على المربي والمتربي التكامل والعمل بالسير على خطى المعصومين (ع) كقدوة وأسوة لنا جميعا من أجل التكامل الانساني.
لتنزيل الملف مع الهوامش إضغط هنا
* الدكتور يوسف ابو خليل: باحث واستاذ جامعي ، ومدير مديرية الأبحاث النظرية في مركز الأبحاث و الدراسات التربوية
آخر تحديث : 2024-06-19
تعليقات