السلوك الاجتماعي والعاطفي عند الشباب
- قراءة في بعض المقدِّمات وسبل التعامل-
د. علي كريِّم*
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد الخلق محمد وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين...
وبعد ...
لعل المثل الشائع : [قل لي من تعاشر أقل لك من أنت]، والمثل الآخر أيضاً: [الطيور على أشكالها تقع]، يحضران ويتطابقان في رصد مرحلة الشباب العمرية أكثر من غيرها من مراحل العمر، فالصداقات وأنماط التواصل الاجتماعي، وحتى العاطفي، تنبع من بداهة الحاجة لدى الشاب نفسه -ذكرًا كان أم أنثى- إلى الآخر، وللأمانة فهي في الغالب تحضر لديه بصدق وإخلاص وبراءة، ودون أي تكلّف أو مصلحة مبيّتة.
ولا يخفى على باحث أو مراقب، أن هذه المرحلة العمرية بالتحديد، وهي الأكثر عنفواناً وإقداماً وتطلعًا نحو الاستقلالية، لا تخلو من نزعة البحث الدائم عن الأقران، وخاصة تلك التي يمكن أن تتلاءم وتنسجم مع الرؤى والطموح والآمال، حتى ولو كان من الجنس الآخر، ليخلق في ذاته مقدارًا من التوازن المطلوب، وإلا سيعيش الوحدة والبؤس وصعوبة التكيف مع محيطه.
وإزاء ما يمكن أن يتمتع به الشاب من طاقات وقابليات، فإنه يهدف إلى استثمارها في علاقاته، حتى ولو أخطأ أو انتُقد في البدايات، لكنه يعلم تمامًا أنه بقدر ما تكون طاقاته وقابلياته الاجتماعية والعاطفية متميِّزة، بقدر ما يندفع إلى استثمارها إلى أقصى مدى ممكن.
ولكن، هذه المقدمة تقود إلى طرح أكثر من سؤال:
ما الذي يدفع الشاب -بداية- نحو بناء هكذا نمط من العلاقات والصداقات؟ وهل يمكن فهم السلوك من خلالها؟
وماذا عن السلوك العاطفي؟ ولماذا ينطلق بقوّة في هذه المرحلة بالتحديد؟
كيف يمكن إدارة السلوك الاجتماعي والعاطفي من قبل الشاب نفسه؟ وهل بالإمكان ضبط المسألة بما يحقق له صلاحًا لذاته ولمجتمعه؟
أسئلة تحتاج إلى معالجة منهجية تنطلق من جملة مقدِّمات يمكن أن ترسِّخ مجموعة من الثوابت للحكم على الواقع انطلاقاً منها.
أولاً: في الدافع نحو بناء الصداقات المؤثرة في السلوك الاجتماعي
إن الخطوات الأولى التي ينتهجها الشاب أو الشابة تدفع باتجاه التفاعل الاجتماعي مع المحيط من خلال بناء العلاقات والصداقات، ويعود ذلك للأسباب التالية:
-
الأول: الرغبة بتشكيل الجماعات
"يحب الشباب تشكيل الجماعات والحياة الجماعية" ، ويقضون أوقاتاً طويلة مع أصدقائهم إلى درجة ينسون معها عوائلهم، ويعتبرون هذه التجمعات هامة جداً بالنسبة لهم، إذ يتشاركون مع بعضهم البعض في القرارات والنشاطات بفعالية كبيرة، ويحفظون الأسرار بين بعضهم، باعتبار أن هذه الصداقات تنسجم مع ما يعتقدونه ويفكرون به.
-
الثاني: إحباط الكبار للشباب
قد يعاني بعض الشباب من نظرة الكبار إليهم، كونهم ينظرون إلي كل شاب بأنه "قليل التجربة والخبرة، وما زال في مقتبل العمر، لا يدرك كل أبعاد الأمور" ، وهذا الأمر يولّد انزعاجًا، وكأنه نوع من التعامل بدُونيّة، في الوقت الذي يرى الشاب نفسه بأنه مقبل على خوض غمار الحياة بطموح وتطلعات تحتاج إلى من يتفهمها.
-
الثالث: اكتشاف الصداقات العميقة
إن درجة المحبّة التي تسود في صداقات الشباب بين بعضهم البعض تتجاوز حدود العلاقات الاجتماعية السائدة أو المتعارف عليها، ويبدو -كما يراها البعض- "جزءًا من مراحل النمو الطبيعية" ، ولكن بمعزل عن الأثر، فإن الأمر رهن التأسيس السليم لشخصية الشاب أو الشابة، خاصة وأن هذا المستوى من الصداقات تدفع نحو التماهي بين بعضهم البعض.
-
الرابع: الالتقاء حول قضايا مشتركة
إن طبيعة الاهتمامات في هذه المرحلة العمرية تتمحور حول تكوين الذات والتحصيل الدراسي وممارسة بعض الهوايات الخاصة، ويتشارك الكثير من الشباب في هذه العناوين؛ لذا تخلق هذه المشتركات نوع من التلاقي والتفاعل وتبادل الآراء، وتصل في بعض الأحيان إلى تبني خيارات بعضهم البعض والدفاع عنها أمام الآخرين لا سيما الكبار، قبل أن يعيشوا حالة من التطبيع الاجتماعي لما هو سائد في المجتمع .
هذه بالعموم، مجموعة من الدوافع التي تحضر لدى الشباب لتكوين صداقاتهم مع أقرانهم، وتعدّ بذاتها مقدِّمة هامة في فهم سلوك الشباب في تلك المرحلة، فمن خلال عملية رصد بسيطة، لا يمكن تمييز الجزء الأكبر من سلوكيات الشباب عن تلك الدوافع، وبمعزل عن تقييمها، فهي مخرجات طبيعية لمدخلات فرضت نفسها في تلك المرحلة.
ثانيًا: في السلوك العاطفي
تشكل مرحلة النمو الفيزيولوجي للشباب استكمالاً لما بدأ في مرحلة البلوغ، أو ما يُتعارف عليها بالمراهقة، ولعل الجانب العاطفي يُعدُّ من أكثر جوانب الشخصية تأثرًا وتأثيرًا؛ فمع تفتح الغرائز، وتشكل الميول الطبيعية نحو الجنس الآخر، تبدأ رحلة الشباب مع الحب والغرام والانجذاب، فهل أن الأمر هو مقتصر على حركة النمو تلك؟ أم أن متغيرات إضافية ما طرأت في علاقاته مع من حوله لتضع الأمور في مسار مختلف؟
إن مقاربة الأمر هنا يتوجب النظر من خلال الجوانب التالية:
-
الأول: التبدل في العلاقة مع الأهل
يغمر الأهل أولادهم بالحب، فيعيش الابن مستوى عالٍ من الاحتضان والرعاية وتأمين المستلزمات وما شابه، ولكنه بمجرد ظهور علامات البلوغ، والبدء بالتعامل معه كإنسان مسؤول تبدأ هذه العلاقة بالتبدل، وقد تصل الأمور بالابن إلى حد اتهام الأهل بالكره له. هنا يبحث الشاب أو الشابة عن ما يمكن أن يعوّض له الحب الذي افتقده، لإعادة التوازن النفسي بإشباع الجانب العاطفي، والخطورة هنا تكمن في الانجرار وراء أهواء العاطفة دون وجود قيود للضبط أو التوجيه .
-
الثاني: البحث عن السعادة
إن سعي الشباب وراء ما يمكن أن يسعدهم لا حدود له، ومع محدودية التبعات التي تترتب عليهم إزاء مغامراتهم -خاصة العاطفية منها- لا يمكن ردع جموحهم نحو التعرف والتواصل وبناء الصداقات مع الجنس الآخر، خاصة وأنها تدغدغ مشاعرهم في الانجذاب التكويني اللاإرادي، وتلامس الرغبة في صحبة من يمكن أن يكون ملجًأ لهم، كما يشكِّل فرصة في حب الظهور وإثبات الذات أمام الآخر، بما يعني [لفت النظر]؛ ومع أهمية الأمر وبداهته، إلا أنه محاط بمحاذير دقيقة لا بد من مجانبتها.
-
الثالث: مقدمة للزواج لاحقاً
إن صورة العلاقة تتطور مع الوقت بين الجنسين نحو الزواج وتكوين الأسرة، في ظل المشهد الطبيعي والمألوف في مجتمعاتنا الشرقية عموماً والإسلامية على وجه الخصوص، بأن مسار العلاقة المقبولة شرعاً وعرفاً بين الجنسين هي تلك العلاقة المنتظمة داخل الأسرة؛ هذه الصورة تدفع باتجاه التفكير بالخيار ولو بسنوات مبكرة، فلا يمكن التغافل عن مشروع قادم ترتكز أولى دعاماته على الحب والعشق والغيرة والرعاية والاهتمام والحفظ والصون وغيرها من الدعامات، وكلها تنطلق من مقدار سَوْق العاطفة لكل من الشاب أو الشابة.
-
الرابع: المثيرات الإعلامية
تحضر في الإعلام اليوم العلاقات بين الجنسين بشكل كبير، سواء كانت في أطرها المشروعة أم لا، أو في سياق تكاملي أو تنافسي، هذا فضلاً عن الابتذال الأخلاقي في بعض ما يُقدّم؛ وكل ذلك في المحصّلة يمثل نوع من التحفيز نحو النظرة العاطفية تجاه الجنس الآخر، والتي قد تتطور إلى علاقات بين الجنسين، قد تُستثمر في إطار الزواج وتكوين الأسرة، أو -والعياذ بالله- ارتكاب الفاحشة واللهاث خلف الأفعال المحرمة. وهذا ما استوقف الكثير من العلماء للتنبيه واستشعار الخطورة فيه، من خلال الإشارة إلى أن "إدخال عنصر الإثارة الجنسية على كافة وسائل الإعلام والأفلام و... يخلق هزات عنيفة واضطرابات وأنواعًا من الفوضى في العلاقات الجنسية وتؤثر على النضوج المبكر ... فتنمو على حساب سائر الكفاءات" .
هذه بالمجمل أيضًا، مجموعة من الجوانب التي تحفز الشباب على السلوكيات العاطفية تجاه الجنس الآخر، وهي أيضًا تُعدّ بذاتها مقدِّمة هامة في فهم سلوك الشباب في تلك المرحلة وما بعدها، فبمقدار ما تنضبط هذه المقدِّمات كمدخلات، يمكن بناء سلوك عاطفي سليم ومتوازن، والعكس صحيح تماماً.
ثالثاً: في توجيه السلوك الاجتماعي والعاطفي
في إطار حسن الضبط والتوجيه نحو سلوكيات اجتماعية وعاطفية سليمة، لا بد من الالتفات إلى كيفية بناء العلاقات، ومدى فائدة تلك العلاقات في بناء السلوك السوي للشباب؛ فمع الامتيازات العمرية التي يتحلّون بها، لا بد للشباب من إيجاد الحدود الحافظة لشخصيتهم، والدافعة لتحقيق آمالهم وطموحاتهم، لا أن يكون شبق المرحلة العمرية نحو تحقيق الذات، والاستقلالية، والتعبير عن الرأي، والسير خلف العاطفة كيفما اتجهت، وما شابه، مدعاة للقيام بما يحلو لهم دون تحمل المسؤولية أو تقدير تبعات الأمرو وعواقبها. لذا، وفي إطار التوجيه للسلوك الاجتماعي والعاطفي بالإمكان الانطلاق مما يلي:
-
الحاجة لمحكومية الشرع: إن الإحاطة الدينية بحدود العلاقات الاجتماعية والعاطفية من خلال ما رسمه الشرع، تفرض مقدارًا عالياً من الضبط، واللافت في الأمر هنا هو المناخ الديني المشبع بالأدب والفضيلة والعفة والتهذيب والرقي في العلاقات مع الآخر، سواء كان في سياق العلاقة الاجتماعية أو العلاقة العاطفية، لتتوزع في العلاقات الاجتماعية بين ما هو واجب (بر الوالدين، وصلة الرحم، ... )، وما هو مستحب (عيادة المريض، ... )، وصولاً إلى ما هو محرَّم (ظلم الآخرين، وإيذاء الجار، ... )؛ وفي العلاقات العاطفية أيضاً بين ما هو واجب (الستر الشرعي، غض البصر، ... )، وما هو محرَّم (الاختلاط، والنظر واللمس، ... ).
-
التعامل بواقعية مع المرحلة ومتطلباتها: لا يمكن إغفال بديهيات مرحلية تفرضها المتغيرات على المستويات التكوينية والنفسية والاجتماعية، وما يترتب على الأمر من تبعات، فكل ما يمكن أن يُقدِم عليه الشباب هو نتاج لما أفرزته بيئاتهم الخاصة؛ مع الإلفات إلى أن الحديث هنا ليس للتبرير، ولكن لفهم حقيقة الأمر والتعامل مع الأسباب قبل التعامل مع النتائج. وكما مرَّ، فإن الشباب في سلوكياتهم الاجتماعية يتأثرون بجملة من الظروف والعوامل المحيطة، وكذلك الأمر في سلوكياتهم العاطفية فإنهم يترجمون ما أملته عليهم الظروف والعوامل المحيطة أيضاً.
-
تقدير التبعات للصداقات والعلاقات: على كل شاب -ذكراً كان أم أنثى- إدراك حساسية الأمر، والعمل بمبدأ حسن الاختيار للصديق أو للزوج المستقبلي، واللافت في الأمر أن تبعات هذه الموضوع تحضر على المستويين، الدنيوي والأخروي.
فعلى المستوى الدنيوي، يحضر حديث مفصَّل عن مواصفات الصديق المناسب والمعين للطاعة والاستقامة على لسان الإمام الحسن بن علي (عليهما السلام): [ ... فاصحب من إذا صحبته زانك، وإذا خدمته صانك، وإذا أردت منه معونة أعانك، وإن قلت صدَّق قولك، وإن صُلت شدَّ صولك، وإن مددت يدك بفضلٍ مدَّها، وإن بدت منك ثلمة سدَّها، وإن رأى منك حسنة عدَّها، وإن سألته أعطاك، وإن سكتَّ عنه ابتدأك، وإن نزلت بك إحدى الملمات واساك ... ] .
أما على المستوى الأخروي، تحدد الآية القرآنية واقع الصاحب وكيف هي تبعاته في الآخرة، وما يمكن أن تجرّ من ندامة على الإنسان، فتشير بالقول: {يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلاً} (سورة الفرقان/الآية 28) -
التفاوت المؤدي إلى التكامل: إن بداهة الاختلاف بين مختلف بني البشر، حتى في النظر إلى الأمور وتقييمها، لَهُو من طبيعة الحياة الإنسانية في المجتمع، حتى وإن كان الأمر بين الأباء وأبنائهم؛ والدعوة هنا للآباء وللشباب معًا، بأن التباين في القناعات والآراء والمواقف والحكم على الأحداث والمجريات، لا بد وأن يكون مصدر غنى، لا مصدر شقاق ونزاع، وليكن البحث عن فرص الاستثمار في هذا الاختلاف مطلوبة، وهذا الأمر يمكن أن يكون مدخلية لتحقيق التكامل الإنساني بين مختلف الأطراف، آباء وأبناء، أو ذكور وإناث، فلينظر كل طرف بأنه يحتاج إلى الآخر لأجل تكامله.
في الخلاصة
لا يمكن رصد حركة السلوك الاجتماعي والعاطفي عند الشباب في تكوين الصداقات وفي العلاقة بين الجنسين بمعزل عن المدخلات الواقعية، والتي تجمع ما بين متغيرات المرحلة العمرية واستتباعاتها الواقعية، فاستحضار المرحلة، والطاقات، وأنماط الشخصيات، والرغبة بالحضور، والبحث عن تحقيق الذات، وصولاً إلى إنشاء العالم الخاص، تدفع جميعها باتجاه تقييم علمي ومنهجي ومنطقي وسليم؛ يبقى أن تكون هذه المقدمات في حدود الملاحظة والرصد لتقدير النتائج اللاحقة وفق ما يرتضيه الله سبحانه وتعالى في صناعة النموذج الشبابي الأصيل.
لتنزبل المقالة مع المراجع إضغط هنا
الدكتور علي كريّم مدير الدراسات الميدانية في مركز الأبحاث والدراسات التربوية
آخر تحديث : 2024-06-19
تعليقات