تربية الأبناء على الذكاء الاجتماعي ومشروع الخلافة الإلهيّة
مريم حجازي
بعد أن سادت ولفترة من الزمن الفكرة القائلة بوجود قدرة عامة واحدة للذكاء عند الإنسان - والتي قسمت الناس لاسيما الأطفال في المؤسسات التعليمية على أساس اختبارات الذكاء ذاك- ظهرت في العقد الثاني والثالث من القرن العشرين أراء جديدة بين العلماء تشير إلى أن الذكاء الإنساني مكون من عدد من القدرات وليس قدرة واحدة فقط! وكان العالم الأميركي والأستاذ في جامعة هارفرد "هاورد جاردنر" من أبرز من قدّم لهذه النظرية في كتابه " أطر العقل، نظرية الذكاءات المتعددة"، ثم عمل على تطويرها لمدة عشرين عامًا. حيث لاحظ جاردنر مثلاً أنّ هناك أفرادًا يتمتعون بقدرات خارقة مع ذلك لا يحصلون في اختبارات الذكاء إلا على درجات متوسطة أو ما دونها مما قد يجهلعم يصنفون في مجال المعاقين عقليًّا! ثم تتالت الأبحاث والدراسات في هذا الإطار وتوسعت مجالاتها، فكان الذكاء الاجتماعي أو ذكاء ما بين الأشخاص أحد الذكاءات التي ظهرت فيما بعد ..
فما هو الذكاء الاجتماعي؟ هو عبارة عن مجموعة من المهارات المعرفية التي تعبّر عن فهم الفرد لمحيطه الاجتماعي وتفاعله الإيجابي معه، في سياق بناء علاقات اجتماعية سليمة، والتصرف بالطريقة الملائمة لتحقيق أهدافه والتعايش مع الآخرين .
ولأن الإنسان يولد في جماعة، ولا يعيش إلا في جماعة – عمومًا- تربطه بأفرادها دائماً علاقات متبادلة، وإذا خرج منها هلك نفسياً ثم جسمياً – عادة- وهذا ما يطلق عليه التفاعل الاجتماعي والذي يرتبط ارتباطاً مباشراً بمهاراته الاجتماعية وعلاقاته مع الآخرين، فإن نجاح الإنسان وسعادته في الحياة يتوقفان على مهارات لا علاقة لها بشهاداته وتحصيله العلمي ولكن يتوقفان على مقدار ذكائه الاجتماعي وتفاعله وعلاقاته مع الآخرين. إذ إن الفرد لا يعيش في مجتمعه بمعزل عن الآخرين بل له علاقاته وتفاعلاته مع أفراد المجتمع الذي يعيش فيه، والذي ينبغي عليه فهم نفسيتهم وشخصياتهم التي تندرج تحت ذكائه الاجتماعي ومدى قدرته على فهم من حوله وهو ما يعبّر عنه بالذكاء الاجتماعي .
ومن الملاحظ أن زيادة هذا النوع من الذكاء لدى أفراد المجتمع يؤثر في ضبط النفس والانفعالات بينهم، ويساعد في تحويل الانفعالات السيئة من كره وبغض واحتقار ونميمة وإثارة الفتن العدوانية... الخ إلى الانفعالات الإيجابية من حب وتقديم المساعدات للمحتاجين واحترام وصدق وأمانة، أي إلى إعلاء وتسامي لهذه الانفعالات السيئة في صورة يقبلها المجتمع وتساعد في تقدم وازدهار هذا المجتمع وبالتالي إبداعه .
وعليه فإن الفرد الذكي اجتماعياً، هو الذي يستطيع أن يكوّن علاقات اجتماعية طيبة، ويتميز بدرجة عالية من التفاعل الاجتماعي، فضلاً عن أن لديه نسيج اجتماعي متميز مع أفراد مجتمعه، الأمر الذي يساعده على تحقيق أعلى درجات التوافق الشخصي والاجتماعي.
فالذكاء الاجتماعي هو من أهم المسائل التي ينبغي أن تحظى بالاهتمام من قبل الباحثين خصوصًا في مرحلة الطفولة، إذ إننا لو استطعنا أن نُنشئ طفلًا يتمتع بمستوىً جيد من الذكاء الاجتماعي لتفادينا الكثير الكثير من المشاكل المستقبلية، ولأعناه خير إعانة على مجتمعه ومستقبله فيما بعد.
فالطفل يعيش في مجتمع تتواجد فيه مؤسسات منظمة وأخرى غير منظمة، حكومية وشعبية، والطفل ينمو في وسط هذه المؤسسات وينضبط بأفكارها وقيمها وعاداتها وتقاليدها وأساليب التنشئة الاجتماعية المتواجدة فيها. لذا لا يستطيع الأطفال أن يكونوا منعزلين عن هذه الأحداث، وهنا تكمن ضرورة وأهمية الذكاء الاجتماعي في حياتهم، حيث يساعدهم في الإعداد للحياة في المستقبل وتبني القائمة الاجتماعية للامتثال، وسعي الطفل للتكيّف مع المجتمع وصقل شخصيته . هذا وقد حددوا مكونات للذكاء الاجتماعي ومظاهر ومهارات له، من أبرزها: فهم الناس والتعاطف معهم، الوعي بالذات والتعبير عنها، التأثير في الآخرين، بناء العلاقات مع الآخرين والمحافظة عليها، حل النزاعات، التعاون مع الآخرين، التسامح وغيرها من المهارات التي أعد لها الباحثون مقاييس محددة للاستدلال على وجودها وقياس مداها .
فلو دققنا قليلًا لتنبهنا إلى أهمية وجود المهارات السالفة الذكر وتنميتها عند الأطفال في أعمارٍ صغيرة، الأمر الذي سيساهم في تسهيل خوضهم غمار الحياة. وعليه فإن الذكاء الاجتماعي ليس نوعًا من أنواع الذكاءات التي يمكن الاستغناء عنها أو التفريط فيها، فعدم تواجده لدى فرد من الأفراد أو ضعف الذكاء الاجتماعي لديه يعني أنه مقبلٌ على حياةٍ تكثر فيها العثرات والمنغّصات، أي أن الذكاء الاجتماعي يُعدّ من المقوّمات الأساسية التي ينبغي تواجدها في شخصية كل الأفراد للحصول على حياة متّزنة، وإن تفاوت في نسبته بين شخصٍ وآخر.
إذاً، وكخلاصة، لا بد للأهل والمربّين الاهتمام ببناء الذكاء الاجتماعي عند الأطفال وتنميته كجزء من عملية التربية وبناء الشخصيّة...
لكن مهلًا، هل انتهى البحث بهذه المقاربة؟! هل اكتفينا بتلك المعلومات القيّمة؟! فبات لزامًا علينا جميعًا الاهتمام بهذا الجانب كاهتمامنا بالصحة الجسدية والتعليم وغرس القيم عند أطفالنا، وإن لم نفعل نكون قد قصرنا وأُثمنا بحسب الاصطلاح الديني!؟ ولكن هل من علاقة بين ما تقدّم وبين الخلفيّة الدينيّة التي ننتمي إليها؟!
إننا وبحكم كوننا ندين بمنظومةٍ متكاملة تسمّى الإسلام، لا يحق لنا -عقلائيًّا كحد أدنى- أن نتبنّى فكرةً ما أو نترك أخرى وأن نمارس سلوكًا وفق فلسفة معينة دون مستند شرعي، لذا ولكي تكون مقاربتنا لموضوع الذكاء الاجتماعي منسجمة مع منظومتنا، لا بدّ من وضعه على معيار الشرع والمنظومة الاسلامية لنقبل به أو نرفضه.
يحدّثنا القرآن عن فلسفة خلق الإنسان وجعله على هذه البسيطة حيث يقول:" وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً" ، والخليفة هو ذاك الذي ينوب عن صاحب الخلافة – وهو الله عز وجل في المقام- لأسباب توجبه منها التشريف، أي أنّ الله عز وجل شرّف الإنسان فجعله خليفته ينوب عنه فيما يأمره به . ثمّ إنّ من أهم تلك الأمور والشؤون التي أوكلت للإنسان عن طريق هذا الاستخلاف الإلهي هو التربية، أي تربية الموجودات!
فلمّا كان الله عز وجل هو رب العالمين فهو جلّ وعلا المدير والمرشد والمربي لكل الموجودات، أي أنه تبارك وتعالى من يقود الموجودات نحو كمالاتها اللائقة بها، وهذا هو معنى المربي والرب، فيخرج كل طاقات وقدرات وقابليات مربوبيه ليتكاملوا ويحصّلوا مزيدًا من التطور والتسامي ...
وعلى المقلب الآخر، ولأن الإنسان خليفة الله عز وجل في مخلوقاته، فقد أوكلت إليه هذه المهمة العظيمة ليتكامل هو والموجودات أجمع، فلا يقتصر دوره على عدم التعدي على الموجودات والمحافظة عليها... وتفصيل ذلك موكولٌ إلى محلّه في علم الكلام والفلسفة والمنطق وما شابه.
لكن.. ما علاقة هذا الكلام بالذكاء الاجتماعي؟!.. فلنكمل..
ليكون الإنسان خليفة، أو مشروع خليفة.. لا بد له من مهارات وقدرات تجعله مؤهلًا لذلك، قادرًا على فهم ذاته أولًا ثم فهم الآخرين والتعاطف معهم، والتعامل معهم بإيجابية وقيادتهم إلى حيث يجب أن يصلوا وغيرها من المهارات المطلوبة، هذا مطلوب في حال أراد الانسجام مع الهدف من وجوده على هذه الأرض! والآن نقول إن هذه المهارات التي عددنا بعضها تُسمّى بالذكاء الاجتماعي بالتفصيل المتقدم، وهو يشكل معينًا مهمًا في هذا المجال – أعني مجال تحقق الاستخلاف الإلهي- .. ولا يمكن أن نُعرض عنه في تربيتنا لأنفسنا أو لأبنائنا ومربوبينا على حد سواء.
هذا ونجد للذكاء الاجتماعي والمهارات والمكونات التي تعبر عنه الكثير من الأحاديث التي تؤكد أهميته وتحثّ الإنسان على امتلاك تلك المهارات في التعامل مع الآخرين وإن لم تسمها ذكاءً اجتماعيا، لما لها من آثار هامّة وطيّبة على حياة البشر في الدنيا والآخرة كذلك. ففي مجال مساعدة الآخرين والتعاطف معهم. روي عن رَسُولُ اللَّهِ(ص) أنه قال:"مَثَلُ الْمُؤْمِنِين فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى بَعْضُهُ تَدَاعَى سَائِرُهُ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى" .
كما روي عن رَسُولُ اللَّهِ(ص) أنه كان يحثّ على مساعدة الآخرين ومد يد العون إليهم حيث قال:" الْخَلْقُ عِيَالُ اللَّهِ فَأَحَبُّ الْخَلْقِ إِلَى اللَّهِ مَنْ نَفَعَ عِيَالَ اللَّهِ وَأَدْخَلَ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ سُرُوراً" .
أما حول مسألة التعاطف مع الآخرين ومواساة الناس قَالَ رَسُولُ اللَّهِ(ص):" سَيِّدُ الْأَعْمَالِ إِنْصَافُ النَّاسِ مِنْ نَفْسِكَ، وَمُؤَاسَاةُ الْأَخِ فِي اللَّهِ، وَذِكْرُ اللَّهِ عَلى كُلِّ حَالٍ" . ولا يخفى على أحد، مدى حثّ أئمة الدين (سلام الله عليهم) على كسب الإخوان والأصدقاء وكثرة الوصايا في المحافظة على تلك العلاقات، فقد قَالَ أمير المؤمنين(ع):" أَعْجَزُ النَّاسِ مَنْ عَجَزَ عَنِ اكْتِسَابِ الْإِخْوَانِ وَأَعْجَزُ مِنْهُ مَنْ ضَيَّعَ مَنْ ظَفِرَ بِهِ مِنْهُم" .
إذًا، وبناءً على كل ما تقدّم، يتبيّن لنا أنّ الذكاء الاجتماعي بالاصطلاح المعاصر يمثّل مجموعة من المهارات والعوامل التي ينبغي توفرها في الإنسان ليس فقط ليكون مقبولًا اجتماعيًّا، ويعيش بوئام مع الآخرين يحظى بصحبة جميلة ويكون ناجحًا في حياته عمومًا (مع أهمية ما ذُكر بالنسبة للإنسان)، بل أيضًا تكمن أهمية الذكاء الاجتماعي في كونه أحد العوامل المؤثرة في كون الإنسان سائرًا فاعلًا في مسير الاستخلاف الإلهي وتحقيق ما خُلق لأجله.
والآن.. هل ينبغي أن نهتم بالذكاء الاجتماعي في تربية الأطفال؟.. أظن أن الإجابة باتت واضحة.
آخر تحديث : 2024-05-27
تعليقات