العلاقات الأسرية للشباب في ظل متطلبات الحياة المعاصرة
- الأخطار والمآلات والحلول-
نشرت في مجلة مع الشباب
د. علي كريِّم*
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد الخلق محمد وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين...
وبعد ...
في الحديث عن الشباب، لا يقتصر الأمر على مرحلة عمرية مبتورة عما قبلها أو بعدها، إنما هو حديث عن أسس للمستقبل، تتكون فيها ملامح الشخصية التي ستؤدي دوراً في بناء المجتمع والأخذ به نحو الصلاح أو الفساد.
ولكي تتوازن شخصية الشباب في مرحلتها العمرية، وتندفع نحو القيام بمسؤولياتها المجتمعية، أملاً بالصلاح المنشود، لا يمكن إغفال طبيعة العلاقات المجتمعية التي يمكن أن تسود في محيطه، وتغذيه بمكونات الشخصية المساعدة على تحقيق أهدافها؛ ولعل أولى تلك هي العلاقات الأسرية، إذ لا ينفك الشباب عن الارتباط القَبْلي بأسرهم، ولكنهم يعيشون أزمة التكيّف مع هذا الارتباط في ظل تطلعهم نحو مواكبة التطور وأدواته بما ينسجم مع الطموح وإثبات الذات، من جهة، وفي ظل انسلابهم من هويتهم الثقافية أمام مغريات الحداثة والعصرنة من جهة ثانية.
هذه المقدمة تقود إلى طرح سؤال رئيسي هو: ما هي طبيعة العلاقة التي يجب أن تسود بين الشباب وأسرهم في ظل متطلبات الحياة العصرية التي يصوغها الشباب لأنفسهم؟ وكيف يمكن تحصينها في ظل الأخطار المحدقة؟
لكي تتم الإجابة على هذا السؤال بشكل وافٍ، لا بد من عرض جملة من النقاط المساعدة على بناء الإجابة بشكل منهجي لتراعي مقدمات العلاقة بين الشباب وأسرهم، مروراً بالتطلعات وما يشوبها من تحدِّيات، وصولاً بعدها إلى الحلول اللازمة والمساعدة على تحقيق الهدف من العرض.
أولاً: في طبيعة العلاقة بين الشباب وأسرهم
لا يخفى على متتبع أو مراقب، بأن المرحلة العمرية التي تتكون فيها شخصية الشاب في ظل أسرته، تتبلور فيها الكثير من معالمها، ويحتاج خلالها إلى الاحتضان الأوسع أمام تحديات الواقع ومغرياته، فهو "يعيش حالة من تطور الأحاسيس والغرائز والنمو الجسدي والروحي وهو يخطو نحو عالم جديد بالنسبة له، وعلى الأغلب فإن المحيطين به من أهل وأفراد المجتمع يجهلون هذا التحول أو الانتقال الجديد، أو لا يهتمون لأمره، مما يدعو الشاب للشعور بالعزلة والوحدة، والشاب في مرحلة شبابه يواجه عالماً كبيراً يكتشفه للمرة الأولى حيث لم يسبق له تجربة في هذا العالم، أو الاحتكاك بشخصياته التي يقابلها، ولهذا فإنه يشعر بحاجته للدليل والمرشد والعون الفكري، والمؤسسات التي ينبغي أن تمده بهذا العون قد لا تساعده أو لا تعطيه الوقت الكافي الذي يحتاج إليه" ، لذا تتمظهر ثروة الشباب في القدرات والاستعدادات والتجارب والمحاولات الدؤوبة لاحتلال موقع متميز ينسجم مع الطموح .
هذا التوصيف الدقيق يلقي بالمسؤولية على المحيط المجتمعي الأقرب وهو [الأسرة]، إذا يمكن من خلالها بناء الشخصية المتوازنة والمتفاعلة بإيجابية عالية مع محيطها. لذا لا بد من التعامل مع الأمر انطلاقاً من بعدين :
- الأول: من الأسرة باتجاه الأبناء، وهنا تحضر جملة من المقدمات المساعدة على علاقة سوية، منها:
- التعامل مع الابن كصديق يمكن محاورته والأخذ برأيه.
- الإشراف على النشاطات والعلاقات دون التدخل في الجزئيات والتفاصيل.
- التعويد على التنظيم والترتيب فيما خص أموره الخاصة للتعويد على الاستقلالية.
- التشجيع لكل ما يمكن أن يبادر إليه ضمن الحدود المشروعة.
- التحفيز على التجربة لاكتشاف قدراته ويتحمل المسؤولية على ضوئها.
- الابتعاد عن المقارنة سواء بتجرتهم (أي الأهل) أو بتجارب الآخرين.
- الانسجام في منهجية التعامل ما بين الأبوين دفعاً للتمييز أو المقارنة.
- الثاني: من الأبناء باتجاه أسرهم، إذ في المقابل، لا بد من قواعد على الشباب الانطلاق منها لانتظام العلاقة الأسرية، منها:
- الابتعاد عن نظرة أن الأهل هم من الجيل القديم، وبأنهم لا يفهمون شيئاً من عالم الشباب.
- الاستماع الدائم إلى وجهات النظر والتدقيق بها قبل الحكم عليها.
- إعطاء الأمرو حجمها الطبيعي والحقيقي، ولا تتعداه إلى حد يشعر الشاب بأنه الضحية.
- الاقتناع بدورهم في الإشراف والمتابعة حرصاً على المستقبل وتحدياته.
- المصادقة ولو بمبادرات من الشاب نفسه بطلب النصيحة.
- الاقتناع بأن هامش الحرية في الأسرة مطلوب ولكنه يترافق مع لازمة العيش معاً.
- ممارسة النشاطات والهوايات وملء أوقات الفراغ، بما يتلاءم مع العيش المشترك مع الأهل.
هذه المقدمات بالعموم يمكن أن ترسم ملامح العلاقة السوية والتي تحتاجها الأسرة كما يحتاجها الشاب، ومنها يمكن الانطلاق نحو النقطة الثانية.
ثانياً: تطلعات الشباب العصرية وتحدياتها
يعيش الشباب اليوم حال من التطلع نحو الحضور والمشاركة وإثبات الذات على أكثر من صعيد، ولكن في ظل ما يواجهونه من عقبات تفرض حضورها، ينعكس الأمر تحدياً في مسار التميُّز الذي يطمحون إليه.
ولتشخيص التحديات بما يتلاءم مع العرض المنهجي المناسب، لا بد من تعيين الأبعاد التي يمكن أن تحضر فيها، والتي يمكن توزيعها وفق التالي (بمعزل عن الأسباب الموجبة):
- على المستوى الديني: يعيش الشباب بالعموم الرغبة في التعرف على كل ما يمكن أن يبعث على الطمأنينة في ذواتهم، ويرى البعض في الدين السبيل إلى ذلك، ولكن الواقع يعمس جمالاً في المظهر ولكن فراغاً في الجوهر، إذ يعاني أغلب الشباب من ضعف على مستوى التدين الصريح، وعلى مستوى المعرفة النظرية والعملية بأمور الدين، فضلاً عن العلاقة بالله والقرآن الكريم والنبي (ص) وأهل البيت (ع)، والتمسك ببعض الإشكاليات النظرية المعطلة للدور.
- على مستوى الهوية والانتماء: دائماً ما يبحث الشباب عن هويتهم وانتمائهم بما ينسجم مع طموحهم وتطلعاتهم، ولكن الواقع يصدم الشباب، ليعيش ضعف الشعور بالولاء الوطني والانصهار ضمن المجتمع الأوسع -لا سيما اللبناني- الذي يضم كافة أبناء الوطن في إطار من المواطنة والمساواة.
- على المستوى الاقتصادي: يرنو الشباب نحو اكتفاء اقتصادي يحقق لهم العيش الكريم، ولكن في ظل أوضاع اقتصادية عالمية صعبة ومحلية أصعب، يعيش الشباب حالة الإحباط، وبعيشها أكثر عندما يعلم بأن معدلات البطالة سواء الصريحة أو المقنعة باتت تهدد استقراره المستقبلي.
- على المستوى الاجتماعي: في الوقت الذي يرى الشباب بأن حضورهم الاجتماعي (سواء الواقعي أو الافتراضي) يشكل لهم توازناً في الشخصية، فإن تفكك الأواصر الاجتماعية وانتشار ظواهر قاتلة على مستوى العلاقات والاهتمامات والوقت، فضلاً عن عيش حالات من العزلة والوحدة، وفقدان مستويات من العفة والحياء، وأضف إليها غياب عن الأنشطة الاجتماعية الفاعلة والهادفة إلى خدمة المجتمع، كلها تعيق له تطلعه نحو الأمن الاجتماعي الذي يبحث عنه.
- على المستوى النفسي: في خضم البحث والسؤال عما يمكن أن يشكل حصانة نفسية، يعيش الكثير من الشباب حال من اضطراب في الميول، واستشعار النقص العاطفي، والبحث عن سبل الإشباع بمعزل عن النتائج والمترتبات سواء الفردية منها أو الاجتماعية، فضلاً عن الاعتداد الزائد بالنفس.
- على المستوى الجسدي: يتطلع الشاب نحو بنية جسدية قوية تنسجم مع حضوره المجتمعي ونظرة الآخرين له، ولكن في ظل قلة الاستفادة من القدرات الجسمانية المتوفرة فضلاً عن قلة تنميتها بالشكل المناسب والهادف، تتشتت هذه القدرات وتبتعد عن هدفها الحقيقي.
- على المستوى الثقافي: أمام الوقوع في الفخ نتيجة الانسلاب الثقافي إزاء الحرب الناعمة والغزو الثقافي والتقليد الأعمى للغرب، والانحطاط على مستوى الاهتمامات والموضوعات الثقافية المتداولة، فضلاً عن ضعف الهمّة نحو المطالعة الهادفة، والانشغال بالموضوعات الأقل أهمية، دون توظيف حقيقي وعملاني لوسائل التطور التكنولوجي المتوفرة اليوم، أمام كل ذلك تضمحل ثقافة الشباب وتغيب عنها المكونات المعرفية اللازمة لمواجهة ذلك.
- على المستوى التعليمي: في الوقت الذي يجهد فيه الشباب إلى بناء مستقبلهم العلمي بما ينسجم مع الطموح والرغبة في إثبات الذات، يصطدم الشباب بالتشتت في الخيارات والضياع في تشخيص الاتجاهات العلمية المستقبلية، وترك الأمر للحظ أو الصدفة، نتيجة غياب التوجيه التعليمي اللازم.
- على المستوى السياسي: دائماُ ما ينظر الشباب إلى عالم السياسة بأنه الفضاء الأوسع للبروز وأداء الدور التغييري في المجتمع من خلاله، ولكن في ظل الضعف في المشاركة والنحدودية في الوعي والتحليل والفهم للأحداث والمجريات، تُفرَّغ هذه النظرة من جوهرها، ويصبح عالم السياسة حلبة للصراعات والتناقضات والاصطفافات الدينية والمذهبية والعرقية والمناطقية وغيرها.
هذه التطلعات وتحدياتها عموماً، وإن تفاوتت نسبها، تحضر على مستوى الشباب، فهي تعطي بارقة أمل من جهة، ولكنها تشكل هاجساً لدى المراقبين والمهتمين وأصحاب الاختصاص، علماً أن القدرة على التعامل مع الواقع متيسر في ظل ما يمكن استغلاله من فرص متاحة.
لذا يعود هنا السؤال الأول ليُطرح من جديد وبقوة:
ما هي طبيعة العلاقة التي يجب أن تسود بين الشباب وأسرهم في ظل متطلبات الحياة العصرية التي يصوغها الشباب لأنفسهم؟ وكيف يمكن تحصينها في ظل الأخطار المحدقة؟
ثالثاًً: العلاقة المنشودة:
إن ما تقدّم حتى الآن يكشف عن مقدمات ضرورية في العلاقة من جهة، ومتطلبات يشوبها عقبات من جهة ثانية؛ فكيف يمكن المزاوجة بينهما؟
هنا، وباعتبار أن المخاطب الأساسي هم الشباب، فإنه لا بد من رسم مسار العلاقة الأسرية وفق ثنائية تراعي طرفي العلاقة -كما مر في أولاً-، لذا سيصار إلى تحديد مجموعة من القواعد الضابطة في العلاقة، بما يمكن أن يساعد في الوصول إلى النتيجة المتوخاة، وعلى أكثر من صعيد ومستوى -كما مرَّ في ثانياً- ومنها:
- التحصين المعرفي والديني: وهذه مسؤولية مشتركة لكلا الطرفين، الشباب وأسرهم، فبقدر ما يمكن أن تكون الحصانة المعرفية والدينية حاضرة وحاكمة وضابطة، فإن سبل بناء علاقة أسرية سليمة ستكون أفعل وأكثر نجاعة. والحاجة هنا تبرز لامتلاك ثقافة الالتزام بالحكم الشرعي، لتصبح الضابطة الشرعية مع الوقت هي القاعدة الحاكمة في مجمل السلوك.
- الإيمان بالطاقات والقدرات: فكما مرّ، بأن مرحلة الشباب العمرية هي ثروة على مستوى الطاقات والقدرات والاستعدادات بما يدفع نحو استثمار مُجدٍ وهادف، يشعر معه كلا الطرفين بأنهما منسجمان في تحقيق الأهداف المنشودة .
- تعيين المسار الصحيح: إن بناء قناعة الهدفية في التعامل مع الشباب، أي توجيه مختلف السلوكيات والأفعال نحو هدف محدد يعفي من العبثية واللهو وخسارة الوقت والعمر، ولا يخفى بأن الأمر يرتبط في البداية بقدرة الأهل على تنظيم أمورهم الحياتية وفق مسارات صحيحة يستطيع أن يستشهد الشباب بها.
- تعيين المسؤوليات المرحلية: إن تهيئة الشباب ليكونوا عناصر فاعلة ومؤثرة وناشطة في المجتمع تتطلب إعداد ديني واجتماعي وقانوني واقتصادي وسياسي وغيره، بما يخلق القابليات لديهم في مواجهة تحديات الحياة بمسؤولية تبنى على ضوئها المهام اللاحقة، "فكثيرون من الشباب الذين يفرحون أنهم قد وصلوا إلى سن الاعتماد على الذات واستلام المسؤوليات، ولكن نفس الأمر يثير الرعب في قلوبهم، وتعتريهم أحياناً بسبب هذا الرعب رغبة أن يعودوا إلى سن الطفولة، وهنا يتعين على المربي أن يصور لهم مرحلة الشباب، وباقي المراحل التي تعقبها على أنها مزرعة جميلة يزرع فيها الإنسان حسناته، ومن ثم يسعى المربي إلى إزالة الخوف والقلق والاضطراب ممن قلب الشاب" .
- العناية بأمور الشباب: في حديث للإمام الصادق (عليه السلام) يقول فيه: [وعليكم بالأحداث فإنهم أسرع إلى كل خير]، لعل ما يمكن أن يخلق علاقة أسرية سوية مع الشباب، هو إشعار الشباب بأنهم على قدر عالٍ من الأهمية، وبأن أمورهم وشؤونهم وقضاياهم محل عناية ومتابعة، حتى إذا كانت بعيدة عن جيل الأهل، فلكسب الودّ، يستطيع الأباء والأمهات تكريس جزءاً من أوقاتهم للاهتمام بما يهتم به الشباب أنفسهم، حتى إذا احتاجوا لتوجيههم (الأهل يوجهون أبناءهم الشباب) وجدوا قابلية التجاوب، والاهتمام هنا لا يقتصر على الحضور المباشر فقط، بل يمكن إشراك مختلف التشكيلات المجتمعية (نوادي- جمعيات- أحزاب- كشاف- ... ) يمكنها أن تصقل شخصيته في إطار تكاملي مع الأهل.
- زرع الثقة بالنفس: إن التأكيد على تعامل الأهل مع أبنائهم من الشباب بالإحسان والمحبة والاحترام لكفيلُ بأن يمنحهم الثقة بالنفس، والقدرة على الانسجام الطوعي مع الأسرة وتكوين علاقة ملؤها التقدير والتآزر على كل ما يمكن أن يصب في المصلحة الأسرية عموماً.
- المواكبة الدائمة: يحتاج الشباب إلى الرفق بأمورهم، فقد يخطئ الشاب أو يسيء أو يرتكب جرماً ما، فلا يمكن الاكتفاء بالبناء الأول وفق المقدمات التحصينية، بل يحتاج الأمر إلى حسن المواكبة، واللافت "إن الإحصائيات العلمية المتعددة تشير إلى أن أغلب الاعتداءات وأغلب الجرائم التي يقوم بها الشباب هي بسبب شراسة الشباب الناجمة عن عدم مراقبتهم وإرشادهم" .
هذا بالعموم يمكن أن يشكِّل مدخلية تساعد في بناء علاقة أسرية سوية توظفها في مواجهة متطلبات الحياة المعاصرة، ويبقى الأمر رهن حسن التوظيف لهذه العناوين.
في الخلاصة، لا يمكن إعادة بناء النموذج المأمول بمعزل عن تشخيص أسس العلاقة، ومتطلبات الواقع المباشر؛ ولبناء علاقة أسرية سليمة يحتاج الأمر إلى تشارك، قد يتحمل فيه الأهل المسؤولية الأكبر، ولكن على الأبناء أيضاً أن يهيئوا أنفسهم لدور تكاملي يتحقق من خلاله التكامل الاجتماعي المنشود.
لرؤية المقالة من المصدر بصيغة PDF انقر هنا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* أستاذ جامعي ،ومدير الدرسات الميدانية في مركز الأبحاث والدراسات التربوية
تعليقات