التربية الاسلامية والتحديات المعاصرة

"نشرت المقالة في مجلة نجاة"
د. يوسف أبو خليل *
مقدمة
إن مقولة "القرية الكونية" لم تعد شعارًا فضفاضًا لا واقعية له، بل اضحت واقعا معاشا نعيش في صلبه ولبه، في ايجابياته وسلبياته، في فرصه وتهديداته. ونتيجة التطور السريع في وسائل التواصل ومختلف الوسائل التكنولوجية الحديثة، وظهور العولمة الاقتصادية التي جسدتها المؤسسات التجارية العابرة للقارات، والتي تلاها العولمة الثقافية، بات وجود ثقاقات منغلقة هو امر اشبه بالمحال. ونتيجة لهذا التحول نجد انفسنا أمام تحديات مختلفة وعلى كل الصعد الفكرية والثقافية والاجتماعية...
فعلى المستوى الفكري نجدنا أمام تحديات فكرية لها علاقة بالمباني والمبادئ التي يجب من خلالها أن ننظر الى الانسان في جانبيه الروحي والجسمي، والابتعاد عن النظرة الاحادية المادية التي جعلت هذا الانسان يعيش فقط لاشباع رغباته المادية. وعلى المستوى الثقافي نحن نواجه الغزو الثقافي الذي يريد أن يلغي الخصوصيات الثقافية للمجتمعات لتهيمن الثقافة الغربية على مجتمعاتنا الاسلامية وتبقى اسيرة الاستهلاك الثقافي البعيد عن اصول ثقافتنا الاسلامية وهويتنا الحضارية. وتلعب وسائل التكنولوجيا والتواصل دورا اساسيا في عملية الاستلاب الفكري والثقافي حيث تشكل الاداة الاكثر فاعلية في توجيه مجتمعاتنا الى اغراض واهداف لا تمت الينا بصلة، وعليه فنحن مدعوون الى التأصيل الاسلامي في مختلف ميادين العلوم الانسانية عموما، لا سيما العلوم التربوية خصوصا، لأن التربية تعد العامل الاهم في مواجهة هذه التحديات.
التربية الاسلامية في مواجهة التحديات المعاصرة
لأن كانت التربية بمعناها الاهم هي عبارة عن تنمية الاستعدادات في مختلف الابعاد الانسانية، فمن الطبيعي ان تصبح التحديات اكبر واعظم. وللاسف تتشكل وتتقولب هذه التحديات بمجموعة اسئلة لدى الاجيال الناشئة، انه لماذا تأخر المسلمون وتقدم الغرب، لماذا نعيش في بؤس وقهر وفقر مع أننا متدينين في حين يعيش الاخرون في بحبوحة وعيش رغيد وهم أبعد ما يكونوا عن الدين والتدين؟
قد لا نجد اسئلة حاضرة وجاهزة مقنعة الا من خلال قراءة مفصلة للعوامل الثقافية والاجتماعية والفكرية للامة، وكذلك العوامل السياسية المتمثلة بجور الحكام وتبعيتهم، والعوامل الاقتصادية التي تنسحب ايضا على الاوضاع الحياتية التي نعيشها.
لقد تخلى الغرب عن الدين في العصور الحديثة نتيجة الظلم الذي عانوه من رجال الدين “الغربيين” ولا اقول “المسيحيين”، الذين سخروا الدين لامر الحكام ووقفوا امام كل فكر وعلم يريد أن يتقدم خطوة الى الامام. وليس أدل على ذلك مما عاناه كوبرنيقوس في ثورته العلمية التي ادت الى تغيير العلوم الفلكية من مركزية الارض الى مركزية الشمس، وعندما بدأ غاليلو التأكيد على أن الأرض في الواقع تدور حول الشمس، وجد نفسه قد طعن في المؤسسة الكنسية في وقت حيث التسلسل الهرمي للكنيسة قد ارتبط مع السلطة الزمنية، وغيرهم الكثير من العلماء الذين تم تكفيرهم واتهامهم بالهرطقة، وأدى بالبعض منهم الى اعدامهم حرقا.
ونتيجة هذا المنع الفكري والعلمي، انتشرت في الغرب مذاهب فلسفية واجهت الكنيسة وغالت بالانسان على اعتبار انه هو الكائن الوحيد الذي يمكنه ان يسيطر على الطبيعة، واعلن بعض فلاسفتهم ومنهم الفيلسوف الالماني نيتشه عن موت "الاله" ليحل مكانه "السوبرمان" أو الانسان الأعلى، واصبح الايمان فقط بالعلوم التجريبية، والتي تشكل –حسب رأيهم- حبل الخلاص للانسانية والتي تؤدي الى هيمنة وسيطرة الانسان على الطبيعة وباقي المخلوقات.
ولكن في مطلع القرن العشرين، كانت البشرية على موعد مع حرب عالمية قتلت وجرحت وشردت عشرات الملايين. وأمام هذا التحدي عاد الفلاسفة والمفكرون منهم للبحث والدراسة، وعرفوا بأن ليس بالعلم التجريبي وحده يحيى الانسان، والعلوم التجريبية هي سلاح ذو حدين، ونشأ ما يسمى بفلسفة القيم التي اسس لها الفيلسوف الالماني "ماكس شيلر" في مطلع القرن العشرين.
وكان العالم الغربي والعالم اجمع على موعد آخر مع حرب عالمية ثانية، ونتيجة التقدم بالعلوم التجريبية لا سيما دخول السلاح الذري واستخدام اميركا له في الحرب وتدمير كل من هيروشيما وناكازاكي في اليابان بشكل شبه تام، وبسبب هذا التنامي في العلوم من جهة، وفقدان القيم الالهية والانسانية من جهة اخرى، كانت النتائج كارثية على مستوى الخسائر البشرية والمادية.
وما زال الغرب يحاول فرض سيطرته وحتى استعماره واستضعافه للشعوب ولكن بأساليب اخرى منها العولمة والغزو الثقافي والحرب الناعمة.
وتأسس في الغرب ايضا علم حديث حاول أن يعطي العلوم التجريبية بعدا قيميا، وهو ما يسمى الاخلاق العلمية ، والذي يحاول ان يلعب دور الدين ويشكل ضابطا اخلاقيا لكي لا تتعدى العلوم على اصل البشرية وتخريبها، اذكر مثالا عليها علم الاستنساخ واللعب بالجينات البشرية.
وبعد هذا العرض الموجز هل تختلف تحدياتنا عن تحدياتهم، بالطبع نعم، لان نشوء العلوم في الغرب كان كرد فعل على رجال الدين الذين وقفوا في وجه اي تطور علمي لعدة قرون، ولهذا سميت القرون الوسيطة بالقرون المظلمة.
الاسلام والعلم
أما ما نواجهه اليوم في عالمنا الاسلامي انما يعود الى ابتعادنا عن الدين، ولا يوجد مواجهة بين الاسلام والعلم، بل بمقدار ابتعادنا عن الدين بمقدار ما نبتعد عن العلم. لان الأديان التوحيدية اكتملت بالاسلام وتمت النعمة. فالاسلام لم يأتي ليلغي الاديان التوحيدية بل ليكملها ويتمها. والاتمام هنا معناه هو انه لن يأتي كتابا مقدسا بعد القرآن الكريم ولن يأتي نبيا بعد خاتم المرسلين (ص). وقد عبر القرآن الكريم عن هذا حيث قال:" الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا. وهذا يقتضي ان ننظر الى الاسلام على انه سيبقى قائما الى يوم الدين، وبقائه يستلزم تلبية حاجات البشرية في تطورها ومسارها التاريخي، في ماضيها وحاضرها وفي مستقبلها.
ولقد ربط الاسلام خشية الله بمقدار ما يحصل الانسان من العلم حيث جاء في القرآن الكريم: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾ ولم يساوي القرآن بين أهل العلم وغيرهم بل أكد على تقدم أهل العلم والمتمسكين بحبله حيث قال عز وجل: ﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ﴾ ورفع الله العلماء درجات عن الناس الذين لم يتخذوا من العلم وسيلة حيث جاء في القرآن الكريم:﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ . وقد اشار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لفضل العالم وأهميته في حياة الامة حتى على العابد، فقال (ص): "فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم" .
فالاسلام صالح لكل زمان ومكان ومجتمع انساني على مختلف الصعد، لذلك يقول علماؤنا بأنه علينا أن نبني حضارتنا الاسلامية، وهذه الحضارة هي التي تقدم نفسها كحل للانسان في ثنائيته الفردية والاجتماعية، الدنيوية والاخروية، الروحية والجسمية...
اذن من المنظار الحضاري يلحظ الاسلام مقولتي الزمان والمكان، وبناء الحضارة الاسلامية هو الالتفات الى الوضع الراهن والمستقبل الاتي من منظار المبادئ والاصول الاسلامية والاخذ بأسباب العلم والتقدم والتطور.
وهنا سوف اشير الى نموذج تربوي معاصر يؤكد المدّعى، ليس لاقول بأن الاسلام لديه كل شيء، بل لاقول بأن الحضارة الاسلامية هي نموذج انساني يتلائم مع مقتضيات الانسان في كل زمان ومكان، ويجب العودة الى ديننا الأصيل لننهل منه المباني والاصول التي تساهم في بناء هذه الحضارة وفي مختلف العلوم وفي الابعاد الانسانية كافة، لا سيما على المستوى التربوي.
الوثيقة الاممية "التربية 2030"
تعتبر الوثيقة الاممية " التربية 2030" والتي وافق عليها اكثر من 170 بلدًا اخر ما توصلت اليه العلوم التربوية الحديثة، ولست هنا في صدد نقدها بشكل مفصل، ولكن سألقي الضوء على بعض مخرجاتها التي خالفت وتوافقت تربویٌا مع الرؤية الاسلامية.
المخرجات التي تخالف التربية الاسلامية:
وعليه نجد أن كل ما تقدم يشكل تحديا تربويًا خطيرًا للمجتمعات القائمة على خصوصيات دينية والهية وهذا مما لا يمكن قبوله وادخاله الى المناهج التربوية التي يراد أن يربى اطفالنا عليها من وجهة نظر الأديان الالهية والاسلام.
المخرجات الموافقة للتربية الاسلامية:
وهنا سوف اشير فقط الى حديثين واردين عن رسول الله محمد (ص) التي أكدت على المخرجات التعليمية الحديثة، ليس بهدف تأييدها أو اعطائها شرعية، بل للتأمل في أهمية القراءة التربوية للنصوص الواردة، والتي تأخرنا كثيرًا فيها، بينما وصل اليها الاخرون بالتجربة البشرية التراكمية، كل هذا يستدعي الاستنهاض التربوي القائم على المباني والاصول الاسلامية.
_____________________________________________________
* الدكتور يوسف أبو خليل : أستاذ جامعي ، نائب مدير مركز الأبحاث والدراسات التربوية ومدير مديرية الأبحاث النظرية في المركز
تعليقات