طبيعة دور الأب وانعكاساته تربويًا على الاولاد من وجهة نظر اسلامية
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحيم
وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَ قُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّياني صَغيراً
صدق الله العلي العظيم
في هذه الاية الكريمة التي نبدأ بها هذه السطور، والتي تتضمن معاني كبيرة حول العلاقة التربوية بين الأب والأم من جهة، والأبناء من جهة أخرى، وتتضمن مختلف تعابير الرحمة والمودة... وتعتبر هذة الآية الشريفة موضوعًا تربويًا قائمًا بذاته، يمكن الاضاءة عليه لتقديم فلسفة قائمة بذاتها حول الرؤية الاسلامية للتربية.
ولكن ما أوّد أن اشير اليه، والمرتبط مباشرة بموضوعنا، هو أن هذا الدعاء أشار الى الدور التربوي للأسرة والذي يشمل الرجل والمرأة، حيث نجد ان الخطاب القرآني شملهما معًا، ولم يقل ربتني ولا رباني بل "ربياني" صغيرًا، وللاسف بتنا نعتقد خطئًا ان الدور التربوي للاسرة يقع على عاتق المرأة فقط، ولا علاقة للرجل به، فمن هنا نجد ان الأب والأم مشتركان معًا في التربية حسب الرؤية الاسلامية والمفهوم القرآني.
فالاسرة كالطائر الذي لا يمكن له أن يطير إلاّ بجناحيه، لذلك فمن غير الممكن للاسرة السليمة والمنسجمة الا ان تطير بجناحيها وهما الرجل (الأب) والمرأة (الأم)، لتحلّق في سماء الرفعة والرقي والتكامل في مختلف الأبعاد الانسانية. وفي حال الخلل في أحد الجناحين قد تقوى الأسرة على التحليق، ولكن لن تقوى على الارتفاع والتسامي بالشكل المطلوب الا استثناءً. وفي حال فقدان أحدهما بالشكل الكامل فلن تستطيع الأسرة أن تحلّق، وسيظل هدفها الحماية والوقاية من الاخطار والتهديدات المحيطة والبيئة الفاسدة، وهي عملية يجب ان يقوم بها أحدهما (الأب أوالأم) لرأب الصدع والخلل، ودونها الكثير من العقبات. وقس على ذلك حال غيابهما معًا.
بالحقيقة هذا التشبيه انما يسلط الضوء على الدور والاهمية لكلا الطرفين اي الأم والأب في بناء الأسرة وتكاملها، وإن غياب أحدهما سيؤدي الى وجود خلل على المستوى التربوي الأسري، وهو أحد اهم وجوه التربية.
وللاسف قد يكون غياب أحدهما ليس قدرًا أو قضاءً كالموت، أو الطلاق المبرر، أو أسباب خارجة عن الاختيار. ولكن الغياب الاختياري والطوعي والانسلاخ عن القيام بالواجب الاهم، وهو اعداد الأسرة الصالحة ، والتلهي بما هو أدنى نتيجة فقدان القيم الاخلاقية للأسرة، والذي يعتبر من التحديات التربوية التي يجب الإشارة اليها والعمل على معالجتها.
وتجدر الاشارة الى أن التربية مأخوذة من معنيين اثنين:
المعنى الاول: تشتق تربية من مصطلح "رَبَوَ على وزن "تفعلة" وتفيد هذه المادة معنى الزيادة والاضافة" وهو بمعنى النمو، والمقصود هنا النمو الفيزيائي والجسدي، وهذا أدنى ما يقوم به الانسان تجاه أسرته، وقد ورد في القرآن الكريم في خطاب فرعون للنبي موسى(ع) حينما قال له " قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ " وطبعًا لم يقصد فرعون هنا التربية الاخلاقية لان فاقد الشيء لا يعطيه، بل كان يقصد المنّة على النبي موسى(ع) من خلال تقديم المأكل والملبس والمسكن... وهذا المفهوم للتربية ينسحب على كل المخلوقات النامية، لذلك يقال تربية النحل وتربية الازهار...
المعنى الثاني: تشتق ايضًا من مصطلح رَبَّبَ وهو بمعنى الرعاية والحفظ والهداية. فالله هو الرب والمالك والراعي والحافظ والهادي لبني الانسان، وبالمعنى القرآني أتى التشبيه بمعنى الصناعة والمحبة والرعاية، وذلك عندما خاطب الله عز وجل نبيه موسى(ع) حينما قال تعالى:" والقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني" ورب الأسرة او ربة الأسرة هما مفهومان مجازيان ليعبرا عن الدور المهم والوظيفة الاساس لكل من الأب والأم في النطاق المحدود بالأسرة.
صحيح أن الأم هي الاساس وهي عماد الأسرة تربويًا والتي إن فقدت ثلم ثلمة في الأسرة لا يسدها شيء، ويمكن لها القيام بدور الأم والأب معًا، ولكن هذا الأمر لا يكاد يكون الا استثناءً فالأسرة السليمة هي التي يؤدي كل من الأب والأم دورهما التربوي، لتتكامل الادوار ونبني اسرة سليمة.
ويلعب الأب دورًا أساسيًا في بناء منظومة الأسرة على المستوى الاخلاقي والقيمي، بالإضافة الى المستويات الاخرى. وأثبتت بعض الأبحاث الحديثة أن احد أهم عوامل ضعف الأسرة، وتفشي الجريمة، عدم القدرة على السيطرة على الغضب والتحكم بالذات لدى الابناء، هو بسبب ضعف أو غياب الدور التربوي للأب. والأطفال الذين نشأوا في أسر يقوم الأب فيها بدوره التربوي ، لديهم القدرة اكثر على حل المسائل التي تواجههم في حياتهم المستقبلية، وذلك لمقدرة الأب بشكل اكبر على التعاطي بشكل عقلاني بعيدا عن التأثير العاطفي . ويشكل الأب مدخلاً أساسيًا ليطل الاولاد من خلاله على المجتمع المحيط لا سيما بالنسبة للصبية، وذلك من خلال اصطحابهم ومشاركتهم الأب في مختلف الأنشطة الاجتماعية. وأثبتت بعض الاحصاءات أيضًا أنّ مشاركة الأب في تربية الأسرة تؤدي الى ايجاد افراد يتحملون المسؤولية في الكبر بسبب التأثير الايجابي للاب في تحمل مسؤوليته التربوية، وإن غياب الأب المربي والقدوة سيؤثر في المستقبل حينما يأخذ الصبية الأم القدوة، ويؤدي الى بروز مشاكل اجتماعية لهم سيما في مجتمع الرجال، وأيضًا في حياتهم الزوجية. وتواجه الفتيات اللاتي عشن في عائلة غاب فيها الأب مشاكل جمة في حياتها الزوجية، لا سيما بخصوص التواصل والتفاهم مع الزوج، والذي لم تتعرف فيها على دوره نتيجة عدم وجود الأب في المنزل اثناء الصغر، ولن يكون لديها استعداد وتفهم وتقبل لمشاركة الرجل في التربية والحياة الاسرية، وهذا غالبًا ما يؤدي الى كثير من المشاكل داخلها.
ولكي يقوم الرجل بوظيفته التربوية يجب الاشارة الى بعض الملاحظات الاساسية:
-لا نعني هنا الحضور الفيزيكي للرجل في المنزل، و التخلي عن دوره التربوي، لأن ذلك سيؤدي الى مشاكل أكبر، وقد تكون أصعب على المستوى التربوي. فكم من أب حاضر غائب في منزله.
-لا يعني حضوره في المنزل تخلي الأم عن دورها التربوي، أو إرغامها على التخلي عن دورها التربوي الأساس، بل كما سبق وذكرنا إن الوظيفة التربوية هي تكاملية بين الرجل والمرأة كما هو دورهما في المجتمع ككل، وبناء للرؤية الاسلامية التي توحد بين الرجل والمرأة في الانسانية، وتفرق بينهما بالدور والوظيفة من اجل تكامل المجمتع.
-انطلاقا من الدور التكاملي للرجل والمرأة واختلاف الوظائف فيما بينها، لذلك نجد ان هناك أمور لا يتعلمها الأبناء الا من ابائهم، وكذلك الحال بالنسبة للأم.
-على الأب المربي أن يلعب دورًا اساسيًا في كونه مظهرًا ومجسدًا للقانون والعدل والانصاف داخل الأسرة.
أما بخصوص الأبعاد المختلفة للتربية من وجهة النظر التكاملية الاسلامية، والتي يجب على الأب وكذلك الام ومختلف المؤسسات الاجتماعية والتربوية والثقافية (الرسمية والخاصة) أن يلعبوا دورًا اساسيًا بها، فيمكن تلخيصها بالأبعاد والساحات التالية :
-التربية العقائدية والعبادية والاخلاقية.
-التربية الاقتصادية والاجتماعية والبيئية
-التربية العلمية والمهنية والمهاراتية.
-التربية الجمالية والفنية.
-التربية النفسية والجسدية.
وكل هذه الأبعاد يلعب الاهل الدور الرئيس فيها، ومن هنا نجد أن التربية في الأسرة مناطة بالأب والأم معًا، وذلك من اجل تحقيق الحد الادنى من التربية الاسرية بناءًا للرؤية الاسلامية التي تقوم على اعداد المجتمع الطيب والحياة الطيبة.
المصدر : مقالة نشرت في مجلة نجاة العدد 42
المصادر :
- القرآن الكريم، سورة الاسراء، الاية 24.
- نظرة متجددة في التربية الاسلامية، خسرو باقري، مركز الابحاث والدراسات التربوية، دار البلاغة، لبنان2015، ص61.
- القرآن الكريم، سورة الشعراء، الآية 18.
- القرآن الكريم، سورة طه، الآية 39.
الكاتب : د. يوسف ابو خليل
- استاذ جامعي، نائب مدير عام مركز الابحاث والدراسات التربوية، متخصص في فلسفة التربية الاسلامية.
- استاذ جامعي، نائب مدير عام مركز الابحاث والدراسات التربوية، متخصص في فلسفة التربية الاسلامية.
آخر تحديث : 2022-11-22
تعليقات