بسم الله الرحمن الرحيم
المهارة 2 و3 من 21
المهارة 2: وعي لهدفية الحياة - "لماذا أنا هنا؟"
بعد أن تحدثنا عن المهارة الأولى وهي وعي لنظرتك إلى العالم، نأتي إلى المهارة الثانية وهي "الوعي لهدفية الحياة". إن توضيح هدف حياتك أمر محوري لمعرفة ذاتك – معرفة ليس فقط من أنت بل لم أنت هنا. وكما قال ماركوس أوريليوس Marcus Aurelius، الإمبراطور والفيلسوف الروماني في القرن الثاني ميلادي، "كل شيء – حصان، نبتة عريش – خُلق لهدف...لأي مهمّة، إذن، خُلقت أنت؟ إن اللذة الحقيقية التي يختبرها الإنسان هي أن يقوم بالأشياء التي خُلق لأجلها". إن كنتُ أتقاضى راتباً شهرياً عالياً ولكنني فقير على مستوى الفرح، يعني ذلك أنني لا أعيش حياة ذكية روحياً.
كتب أبراهام ماسلو Abraham Maslow في القرن العشرين "على الموسيقي أن ينتج الموسيقى، وعلى الرسام أن يرسم، وعلى الشاعر أن يكتب إن أراد كل واحد منهم أن يكون في حالة سلام مع ذاته. على الإنسان أن يكون ما يمكنه أن يكون". رأى ماسلو Maslow أن إكتشاف هدف الحياة والعمل لتحقيقه ليس فقط مصدرٌ للذة بل "حاجة" مثلها مثل الجوع. أطلق على هذه الحاجة إسم "تحقيق الذات" وهي "رغبة الإنسان بالكمال الذاتي، وميله نحو أن يصبح بحسب إمكاناته: أن يصبح كل ما هو قادر عليه". عبارة أخرى نجدها في إنجيل توما تحذرنا من مخاطر عدم تحقيق الهدف من حياتنا: "إن لم تقدّموا ما بداخلكم، ما بداخلكم سيدمركم". وفي الثقافة الإسلامية نجد الحديث المعروف عن الإمام علي عليه السلام الذي يقول: "رحم الله امرء عرف من أين وفي أين وإلى أين". بعبارة أخرى، أحلام ما كان يمكن لنا تحقيقه أو ما كان يجب علينا تحقيقه قد تمتص الفرح من حياتنا وتملأنا بالندم في شيخوختنا. إن السعي وراء حياة ملؤها الهدف، وعلى الرغم من احتوائها على المصاعب، تجعلنا نشعر بالرضى في نهاية حياتنا. أنا أريد أن أقول في نهاية حياتي هنا: "لقد كانت حياة سعيدة خَدَمَت من أحب وخَدَمَت العالم".
عدد لا يُحصى من المدرسين والباحثين والمفكرين قد كتبوا عن هذا الموضوع، تاركين لنا مكتبة غنية تحوي ما هو حديث وما هو تراثي لنختار منها. لذلك، لن أصرف وقتاً هنا في الشرح إلا لأقول بأنه في نموذج SQ21، هذه المهارة مقسمة إلى مستويات تبدأ من مجرد أن يطمح الفرد للعيش على خط واحد مع هدف الحياة، وتتطور من خلال قدرة الفرد على تحديد مواهبه، ووصف مهمته في الحياة، ومعاينة الخيارات والإجراءات التي يجب اتخاذها في ضوء تلك المهمة، وأخيراً، في أعلى مستويات هذه المهارة، أن يحافظ الفرد على ثباته في مهمته بوجه التحديات.
المهارة 3: وعي لهرمية القيم - "كيف سأختار أولوياتي؟"
المهارة الثالثة تتعلق بالقيم. لذلك علينا البدء بتعريف هذه الكلمة. ما هي القيمة؟ أنا اخترت التعريف الآتي: القيمة هي ما تشعر أنه مهم كفاية للتصرف واتخاذ القرارات على أساسه. سبب حبي لهذا التعريف هو أنه يعتبر القيمة شيئاً يُتصرّف وُفقه أو على أساسه. إن قلت بأنك تعطي قيمة لصحتك، ولكنك لا تأكل بشكل جيد أو تهتم بجسمك، عندها لا تكون "الصحة" قيمة حقيقية بالنسبة لك. في أفضل الحالات يمكن اعتبارها قيمة تطمح إليها. أما القيم التي تعيش وفقها، من جهة أخرى، تدعمها الخيارات والتصرفات، وإن كنا نريد أن نرى قيمنا، علينا ببساطة النظر إلى الخيارات التي نختارها والتصرفات التي نقوم بها.
في الحالة المثالية، يجب أن تختار قيمك بوعي، ولا تأخذها فقط ممن سبقك. بشكل أولي، تأتي القيم من عائلتنا، وفي مرحلة من مراحل حياتنا، نتخلى عنها في سبيل البحث عن قيم نختارها بوعي. لاحقاً في حياتنا، قد نتبنى قيم عائلتنا من جديد، ولكن هذه المرة بوعي. إن القيمة التي نتبناها عن غير وعي، حتى ولو تصرفنا وفقها، ليست قوية كمورد شخصي كتلك التي تتبناها بوعي. عندما تصبح الأمور على المحك، فإن القيم التي اخترتها بوعي – وليس التي تلقيتها – هي التي ستصمد وتؤمن لك الثبات وتجعلك قادراً على الاستمرار في مسارك.
إن SQ21 يتتبع تطور هذه المهارة الدقيقة. في مستواها الأساسي، تفهم ببساطة أهمية أن يكون لديك قيم. ومن ثم تطوّر قدرة معرفة قيمك والتوسع في شرحها بشكل أكثر تحديداً. تنشأ لديك قدرة على الربط بين قيمك والأنا الأعلى، وعلى ترتيبها في هرمية، والعمل على أساسها بسهولة حتى ولو كانت النتائج غير واضحة المعالم أو تسبب الحزن.
لبدء تسليط الضوء على قيمك، أقترح أن تبدأ بلائحة بكل ما تظن أنه قيّم ولا تهتم بترتيبها بحسب الأهمية. ثم قم بمراجعة لائحتك واحذف منها القيم التي ورثتها بشكل غير واع والتي ليس فيها أي معنى شخصي بالنسبة إليك. ستنتهي بلائحة تتضمن قيمك أنت – تلك التي اخترتها عن وعي ومعنى. حينما تصبح معك هذه اللائحة، إكتب كل قيمة على ورقة صغيرة وحاول أن ترتبها بحسب أهميتها.
بعض الناس يتراجعون عند اقتراح ترتيب قيمهم بحسب الأهمية. لماذا من المهم وضع هرمية؟ الجواب هو أنه عليك اتخاذ القرارات بشكل دائم، قرارات تتطلب معلومات تستند إلى القيم. تقدم لنا الحياة حالات تتصادم فيها قيمتان أو أكثر. قد تكون قرارات صغيرة – هل علي الذهاب لمشاهدة مباراة يشارك فيها إبني حتى إذا كان ذلك يعني إلغاء لقاء مع زبون مهم كنت أحاول لقاءه منذ أسابيع؟ أو قد تكون قرارات كبيرة – هل علي أن أسافر للدراسة والتحصيل العلمي أم الاكتفاء بما هو متوفر في بلدي مع المحافظة على القرب من عائلتي وأصدقائي. أي قيمة ستغلب الأخرى؟
حين تقوم بهذا التمرين، قد تختصر اللائحة في النهاية بقيم ثلاث: "الله"، "العائلة"، و"العمل". أما ترتيبها فسيحتاج لبعض التفكير وطرح الأسئلة على نفسك. قد تتوصل بأن "الله" يأتي قبل "العائلة" لأنك قمت "بتجربة فكرية". تخيلت وجود حالة تضطر فيها أن تختار بين ما تناديك روحك لفعله وبين إسعاد عائلتك. فتبين معك أنه مع عدم القدرة على الجمع بين الأمرين، ستتخذ القرارات وتتصرف بما يضع عملك الروحي قبل ما تفضله عائلتك. حين تآمن بقلبك أنك ستتخذ تلك الخيارات حتى لو كان ذلك يعني أن تصبح غريباً بالنسبة لبعض أفراد عائلتك يعني أن قيمة "الله" تفوقت على قيمة "العائلة". وقد يتبين معك العكس. وكذلك الأمر بالنسبة للعائلة والعمل. حين تسأل نفسك "إن كان أحد أفراد عائلتي يحتاجني، هل أقوم بإلغاء إلتزام مع زبون حتى لو كان ذلك يعني إنقطاع العلاقة بيننا؟" قد يكون الجواب نعم، إن كانت الحاجة العائلية مهمة. بالتالي، تكون قيمة "العائلة" تفوقت على قيمة "العمل". وقد يكون الجواب كلا حتى ولو كانت الحاجة العائلية مهمة. فتكون قيمة "العمل" قد تفوقت على قيمة "العائلة".
بالطبع لا يمكن أن نبسط الأمور إلى هذا الحد لأنها غالباً ما تكون مترابطة مع بعضها البعض. قد يبدو وكأن الأب يختار العمل على حساب العائلة، أو مباراة يشارك فيها ابنه. ولكنه قد يبرر أن السبب الوحيد الذي يدفعه للعمل حتى وقت متأخر هو إعالة العائلة – لدفع تكاليف التدريب الرياضي لابنه مثلا. أبق هذه التفسيرات المختلفة في البال عندما ترتب قيمك بحسب الأولوية، إبذل جهداً لترتيبها بأقرب ترتيب إلى الواقع. في اللحظات التي يُطلب منك أن تتخذ قراراً سريعاً يتعلق بالاختيار بين أمرين يهمانك، معرفة هرمية قيمك تحدث فرقاً كبيراً.
* نبذه عن الكاتب:
الإعلامي محمد سيف الدين حسن بدأ العمل في قناة المنار سنة 2007 كمتدرب وظهر للمرة الأولى على الشاشة سنة 2008 ضمن برنامج عشرينات. انتقل للبرامج المباشرة سنة 2010 في الإطلالة الجديدة لبرنامج صباح المنار آنذاك. انتقل سنة 2012 إلى البرامج الدينية ليشارك في انطلاقة قناة الصراط حيث قدم مجموعة من البرامج الحوارية بين العام 2012 و2014 أبرزها "الإسلام والغرب" حيث حاور مجموعة من العلماء والأكاديميين في ستين حلقة حول مختلف القضايا من وجهتي النظر الإسلامية والغربية. تحول أكثر للعمل التدريبي الشبابي بعد العام 2014 في مختلف المهارات لا سيما "بناء الشخصية" و"التفكير الإيجابي". كلف بمتابعة مكتب الإدارة العامة في قناة الصراط سنة 2015 وحاليا يتابع ملف تدريب المقدمين الجدد في القناة. بدأ اهتمامه بالذكاء الروحي كمفهوم سنة 2010 حيث لم يكن هذا المفهوم قد دخل إلى الأدب العربي بعد وما زال حتى اليوم نادر الذكر. ترجم كتابين في هذا الإطار لم ينشرا بعد وهما: "الرأسمال الروحي" للكاتبة دانا زوهار و"مهارات الذكاء الروحي الـ21" للكاتبة سيندي ويغلزوورث. وهو مدرب متمرن في مؤسسة "التغيير العميق" في هيوستن للتدريب على المهارات الـ21 منذ 2010.
كما ويعمل على ترجمة المقالات الأجنبية التي ترد على الإلحاد بطلب من معهد المعارف الحكمية.
آخر تحديث : 2022-11-22
تعليقات