مقدمة الدكتور حسين صفي الدين
السلام عليكم جميعا ورحمة الله وبركاته، أرحب بداية بالضيوف الاعزاء وممثلي المؤسسات التربوية، سأبدأ حديثي بقول مأثوريقول: " إن الله جميل يحب الجمال"، سُأل احد الحكماء عن الجمال في الاشياء التي يحبها فأجاب :" احب من الطبيعة الجبال لانها ترفع الابصار والافكار واحب من الشمس طلوعها لانه سلام فيه ابتسام وغروبها لانه وداع فيه رجاء ومن الماء الجاري لانه كالقلب الذي لا يحمل حقدا ومن الاحسان الصدقة لانها كالمطر تأتي في أوانها ومن الصيف صباحه ومن الربيع ضحاه ومن الشتاء مساءه ومن الخريف ليله ومن الغصون المزهرة لان فيها لذة النفس والمثمرة لان فيها لذة البدن، ومن البحر سكونه في النهار وهيجانه في الليل".
انه الجمال والوعي الجمالي الذي بدأ عمره بتاريخ عمر الانسان ، فالانسان هو الكائن الوحيد الذي وهبه الله القدرة على الاحساس بالجمال وتذوق الفنون ، وبالتالي القدرة على الخلق والابداع في كل ما يتذوقه ويحيط به من مظاهر الحياة ، الجمال يبدو امامنا متجليا في كل ما نتأمله من آيات الانفس والافاق في كل ما ينطوي عليه الكون من نعم وموجودات ، هذا التأمل الجمالي هو الذي يغمر النفس بسعادة الاستمتاع بجمال الخلق والخالق فلا تبقى هذه السعادة حبيسة النفس فكما تدفعها الى الايمان بخالقها تدفعها الى التعبير عن هذا الجمال ، فالجمال شكل من اشكال الفكر المنعكس على نشاطه الذاتي ليدفع الانسان على تشييد المعابد والقصور والى نقش العمارات ورسم اللوحات وتأليف الانغام والالحان والسينفونيات ونظم الاشعار .
القرآن الكريم يحفل بالكثير من آياته بدعوة الناس الى استلهام عظمة الكون وروعته في دعوة لا تهدف الى تحسين حال الانسان بالاستفادة من المقدرات المادية فحسب بل تدعو الى تهذيب الاحسان الانساني بالجمال ، واذا كان الدين الاسلامي يدعو اهل الكتاب الى التلاقي على قاعدة التوحيد ونفي الشرك، الا يشكل الاحساس بالجمال وتذوقه قاعدة اخرى في عالم تشتبك فيها الايديولوجيات وتتصارع فيها المنظومات الاخلاقية وخصوصا ان القيم الجمالية هي قيم موجودة ومشتركة بين اتباع الديانات الابراهيمية ، هذا المحور سوف يتناوله الدكتور في علم الموسيقى نداء ابو مراد تحت عنوان " اهمية القيم الجمالية بين الاسلام والمسيحية ".
ننتقل الى المحور الثاني رغم الوضوح والاحساس الكامل بالجمال الا ان الظاهرة الجمالية ليست فلسفة فردية استحسنها الآخرون فأضحت مذهباً وليست مدرسة فكرية تعاونت العقول على انتاجها فأضحت فلسفة ، انها كيان قائم في ذاتية الاشياء التي نعيشها تدخل في شكلها وتناقسها ولونها وتنظيمها انها تلتقي بالتربية العامة وبالمنهج التربوي المراد تحقيقه في كيان الانسان المسلم من المهد الى اللحد ، فالجمال يدخل في كيان التربية العامة ليصبح سمة من سماتها وخاصة من خصائصها وهو لا يقوم بنفسه منحازاً عن الاشياء العينية بل يدخل في كافة المناحي التي تدخل فيها العملية التربوية يدخل في المنهج التربوي ليغدو سمة فيما يهدي اليه وسمة في الوسيلة التي يتخذها المربون للوصول الى الغاية المنشودة ، فكلما كان الانسان اكثر التصاقا بالمنهج التربوي كلما كان أكثر إحساساً بالجمال وأكثر تحقيقاً له في نفسه وفي الواقع من حوله. إذاً هل نحن بحاجة الى اجراءات خاصة لإيقاظ الحسّ الجمالي وتربيته لدى الانسان، ما هي الجوانب الجمالية في العملية التربوية التي تعتمد تعليم المنهج القويم، وما هي الآثار الجمالية لهذه التربية. هذه الأسئلة وغيرها سيجيب عنها الدكتور محمد عليق تحت عنوان " دور القيم الجمالية في العملية التربوية ".
البداية مع الدكتور في علم الموسيقى نداء ابو مراد ودكتور في الطب البشري، يشغل حالياً منصب المدير المعهد العالي للموسيقى في الجامعة الانطونية، مدير دار نشر الأنطونية ورئيس تحرير مجلة "التقاليد الموسيقية في العالمين العربي والمتوسطي"، الدكتور أبو مراد معروف على الصعيد العالمي كباحث أكاديمي ومؤلف موسيقي مختص بالنهج التقليدي التأويلي، له 19 قرصاً مدمجاً ودراسات أكاديمية عديدة منشورة في الموسوعات والمجلات العلمية.
كلمة الدكتور نداء أبو مراد
أود توجيه الشكر لكم على دعوتي وأود التعبير عن سعادتي لوجودي بينكم وبين هذا الحضور من اصفياء القلوب وخيرة الفكر في هذا المجتمع. هذه الورقة بعنوان "أهمية القيم الجمالية بين الإسلام والمسيحية ".
في السعي الى التحاور والتلاقي بين المسلمين والمسيحيين يمكن تحديد دوائر متعددة لتجسيد مساحات التجسير، هي الدائرة الروحانية والدائرة العقائدية والدائرة الاخلاقية والدائرة الإجتماعية، ولا بد من إعتبار الدائرة الروحانية جسراً مميزاً للإلتقاء بين السالكين المستنيرين على تعدد مشاربهم العقيدية خاصة بين المسيحية المتمحورة على تقاليد آباء الكنيسة الشرقية وإسلام عرفاني، وتتواصل هذه الفسحة التقاطعية مع فسحة التلاقي في موضوع الجمالية أو علم الجمال أو بالأحرى إدراك الجمال الإستاتيقي، وخير دليل على هذا التقارب الروحاني الديني الجمالي في الإسلام العرفاني هو التركيز على الحديث الشريف " إن الله جميل يحب الجمال " وفي تقليد آباء الكنيسة هو تسمية أهم كتاب مستيكي أو صوفي وهو " الفيلوكاليا " أي حب الجمال وهو الجمال الإلهي المقترن بوجه السيد المسيح.
وبما أن إدراك الجمال يصبح من هذا المنظار شأنا دينيا روحياً وروحانياً، لا بد من إجراء معاينة مقارنة للسياقين الإسلامي والمسيحي ولمندرجاته السيميائية ويتشاطر ذلك السياقان التقليديان تحدي الحداثة لهما في هذا المضمار وذلك من منظار المرجعية وتقابل الإعتبارين الموضوعي الإلهي والذاتي الفردي لتحديد إطار الجمال وإدراكه وهو يشمل إدراك مفهوم التجلي الجمالي في مساره الكياني الوجودي والتجسير بين العالمين العلوي والسفلي وذلك ايضاً من المنظارين الإسلامي والمسيحي، وهذا ما يشكل لبّ القسم الأول من هذه الورقة، أما القسم الثاني فيحاول إستقراء مصاديق ذلك التجلي من خلال تعيين مثلث سيميائي للأنساق الاستيتيقية الأناسية الثقافية التي على أساسها يفترض أن تتحقق تلك المصاديق الجمالية وذلك في مسار إجرائي متكامل مع مسلك سيميائي آخر وإدراكي معرفي أساسي آخر، يمكن وصفه بالكلي أي المشترك البشري.
نبدأ الآن بالقسم الأول: المرجعية الجمالية بين التقليد والحداثة:
ثمة مفهومان نظاميان يتصارعان في تحديد مرجعية الجمالية هما التقليد والحداثة، التقليد في معناه القوي الشريف هو منظومة موضوعية مقترنة بنظام معياري ودلالي ورمزي يحيل الى مرجع منزه متعالي ويتعدى مفهوم التقليد التسليمي بمعنى " قلد زيد عمر أمانة " مفهوم التراث ويحتويه في آن، فهو يراكم دلالة آلية انتقال موروث ما مع دلالة أخرى هي آلية تأويل الموروث لصنع ما هو جديد وذلك بالاضافة الى دلالة الرصيد الموروث المعهودة، وفي المقابل يتماهى المعنى الضعيف لمفهوم التقليد مع إجراء التكرار الحرفي للتراث أي الاجترار " قلد زيد عمر في أمر ما "، في حين يمكن إعتبار التقليد التسليمي انه إجراء لتعلم اللسان وهو ليس بالضرورة كلامياً في نطاق إنساني معين كما هو إجراء لتحقيق ذلك اللسان واستنطاقه. وفي هذا المعنى ثمة تعميم لمثلث " اللغة/ اللسان/ الكلام" على أوجه متعددة من الأنظمة التواصلية التعبيرية الإنسانية وهذا هو فحوى مفهوم "السيمياء"، والتالي إنه إعتبار سيميائي للتقليد على أساس تعريف السيمياء أنها دراسة أنظمة العلامات وإجراءات الدلالة المقترنة بها. إنطلاقا من منظومة اللغوية التقليدية فإنها تقترن بنحو تقليدي يمكّنها من إنتاج ما هو جديد على أساس النماذج والقواعد الموروثة.
أما الحداثة فهي منظومة ذاتية الطبع مقترنة بنظام دلالي ورمزي معياري يحيل الى مرجع كامل ذاتي إنساني فردي وهي منظومة تهدف الى إنتاج ما هو جديد على أساس معياري ذاتي متغير قد يكون إعتباطي المنشأ، أما الجمال وإدراكه الإستاتيقي فيختلف التقليد مع الحداثة في التدليل عليه وتحديداً فإن الإنتقال من التقليد الى الحداثة وبخاصة من التقليد التسليمي في معناه الشريف أو القوي يستدعي الإنتقال من معايير الجمال المطلقة المرتبطة بالإله الى معايير الذوق الذاتي الإنساني الفردي أو الجماعي.
أما المسيحية الإبائية والإسلام العرفاني ومن باب إقترانهما بالصراط الإطلاقي للتقليد فيبنيان رؤى محددة لمقارنة الجمال وتجلياته ومدراكاته الإستيتاقية، في تقليد آباء الكنيسة اللاهوتي الشعائري إن الإنسان الذي خلقه الله على صورته ومثاله مدعو للتأله طالما تأنسن الله ليألّه الإنسان من خلال نعمة مشاركة اللاهوت والماسوت وهذا صلب العقيدة الإبائية التي تتجلى في المسيحية الأرثوذوكسية.
وإنطلاقاً من التجلي المقترن بالتأنسن فإن الأيقونة والترنيم الكنسي يشكلان إنطلاقاً للتجلي الجمالي والدلالي الرمزي الإلهي، من هذا المنطلق تضحي هذه الأمور المعطاة في الإطار الإنساني إنما معطاة على أساس رمزي إلهي وتصبح إطاراً للتجلي كما يكونان إطاراً للدفع بمسار إحياء الإنسان بملأ الحياة الألهية، ومن هنا ينزل ويستوطن الذهن في القلب حيث ينفتح على النور الإلهي غير المخلوق في الروح القدس بمعناه المسيحي ويتم توحيد حواس هذا الإنسان في القلب لتتلقى الجمال الإلهي سمعاً ورؤيةً كمدخل لتقديس النفس والبدن.
أما الإسلام العرفاني وبخاصة في مذهب الحكمة المتعالية فهو يتلاقى مع آباء الكنيسة في مفهوم التألّه الإنساني الذي ينظر له الملا صدرا الشيرازي ويبرز في غمار هذا الفكر انه ثمة ملتقى برزخي بين العالمين العلوي والسفلي، وهو عالم المثال وهو يجسر بين المعقول والمحسوس حيث يتروحن البدن وتتشكل الأرواح وتنوجد الأشكال العلوية، ولا يمكن للأشكال العلوية أن تدرك إلا من خلال عضو التخيل المبدع وبالتالي فإن العالم يدرك على أنه مرآة للباري سبحانه وتعالى وبالتالي فإن الفنون السامية ومنها الموسيقى تؤخذ على أنها تجليات وتمظهرات إلهية (أقله لدى حكماء الجمهورية الإسلامية في إيران على سبيل المثال) يتم الإستشعار بها في حال الوجد وهذا ما يتبدى من خلال النص لمحي الدين إبن عربي " المستَنوِن في الفتوحات المكية "، وفي الحديث الشريف المعروف: " خروج النفس عن أصل محبة في الخلق الذي يريد التعرف إليهم ليعرفوه، وإنما حبنا إياه بدأه السمع لا الرؤية وقوله لنا ونحن في جوهر العماء "قل" فالعماء من تنفسه والصور المعبر عنها بالعالم من كلمة "كن" فنحن كلماته التي لا تنفذ، وكلمته ألقاها الى مريم وهي عيسى وروح منه وهو النفس فلما سمعنا كلامه ونحن ثابتون في جوهر العماء لم نتمكن من التوقف عن الوجود فهذا كان سبب بدأنا حبنا إياه ولهذا نتحرك ونطيب عند سماع النغمات لأجل كلمة كن الصادرة من الصورة الإلهية غيباً وشهادة ".
القسم الثاني والأخير من هذه الورقة البحثية حاولت أن أعالج فيه مثلث الأنساق الاستيتاقية الإناسية الثقافية وهو مثلث سيميائي. في معرض معاينة رمزية المنظومات التعبيرية التواصلية المنخرطة في الإدراك الإستيتيقي وفي السياق العبادي الديني لا بد من إيلاء المقاربة السيميائية للترنيم قسطاً من الإهتمام وتقيم نظرية السيمياء المقامية تمييزاً أساسياً بين سيمياء ضمنية ذاتية مرتبطة بالكليات الإدراكية ومرتكزة على معلَمة اللحن في تشكيلها التركيبي أي النحوي التوليدي للبنى العميقة الخلفية للنص الموسيقي وبين سيمياء إيحالية مرتبطة بالمندرجات الأستروبية الثقافية ومرتكزة على معلَمة الزمن أي على الإيقاع. أما السيمياء المقامية الضمنية المؤثرة في البنى الخلفية فهي لا تخضع كثيراً لسلطة الشعائرية الثقافية وهي التي يأتي على ذكر مفاعيلها مطلع كتاب بعنوان " الشجرة ذات الأكمام الحاوية أصول الأنغام " كتاب من القرن السابع للميلاد مجهول المؤلف، والمطلع يقول: "سبحان من أبدع وأودع في الأنغام أسراراً خفية وأجرى على قلوب من شاء تحقيق مبانيها الأصلية وغرس أصولها في فكر ذوي الألباب النورانية فاهتدوا بتوفيقه لإستخراج فروعها اليانعة البهية فهو القديم الذي حمَل فروع تلك الأصول بطيب الثمرات ثمرات الشهية وهامت عند استماع اصطكاك أغصانها قلوب أهل العرفان الرضية وشوَقهم بها الى حضراته العليَة القدسية، أحمده فأشكره شكراً يليق بصفاته المنزهة لا إله الا هو وحده لا شريك له هو المنفرد بالوحدانية.
أما السيمياء الموسيقية الثانية التي تهمنا هنا هي الأسلوبية الايقاعية وهي تمثل نطاقاً مثالياً لإستقراء مفاعيل مندرجات الاستاتيق والشعائر الدينية على إنتاج النص الموسيقي وبالفعل يمثل الأسلوب الإيقاعي المعتمد في تشكيل المستوى الأمامي من النص الموسيقي المقامي حيزاً رئيسياً للتماس القائم بين النحو المقامي التوليدي المشترك بين التقاليد الموسيقية الحاوية للنصوص المقامية الوليدة، وبين الإعتبار الثقافي السياقي لذلك التوليد ويأخذ هذا التوليد شكل البصمة التي تضعها مقومات الشعائر الدينية الثقافية في طيّات الفعل الموسيقي، وتندرج هذه المقومات في سياقين متوازيين هما: الوزن الكلامي والوزن الحركي، أي بصمة الكلام الشعائري وبصمة الحركة الشعائرية على تكوين إيقاع النص الموسيقي وتتوازى هذه الجدلية مع نظيرتها القائمة بين مفاعيل الكلمة ومفاعيل النغمة ويمكن العودة الى المقاربة الأستيتقية الخاصة بفريدريك نيتش في" ولادة تراديديا " والى تبيانه نسقين عباديين أساسيين في تكوين الفنون في الحضارة الإغريقية الوثنية هما: النسق الابولوني والنسق الثيونيسي ويشكل لهما مفهوما النسق التسبيحي الصوفي والنسق السراني العرفاني امتداداً إجرائياً يمكن سحبه على نطاقات عبادية أخرى غير وثنية، وهكذا يضحي النسق التسبيحي مقترناً ببصمة الشعر المنشد والنسق السراني مقترناً ببصمة المجاوبة، وقد اقترحنا إضافة نسق آخر نسميه بالتوحيدي التبليغي المعتمد على التلاوة المرنمة للنثر الديني وهذا النسق التوحيدي هو من إطار الديانات السماوية. وهنا القراءة المنغمة للآيات القرآنية أو التلاوة المرنمة وبالتالي يتشكل مثلث نسقي إستيتيقي على أساس هيمنة أحد النموذجين المذكورين الكلامي في مقابل الحركي واللحني أو تكافئهما من منظور التأثير، وتلك الأنساق هي :
1. النسق التبليغي الكلامي التوحيدي الصرف أي الابراهيمي حيث يهيمن النموذج الكلامي والتلاوة المرنمة.
2. النسق الذي يمزج بين السراني والتسبيحي.
3. النسق السراني الصرف.
وكمثال على هذه الأنساق، فتلاوة الآيات القرآنية الكريمة هي على أساس النسق التبليغي الكلامي الصرف، ثانياً ترنيم الرثاء على النسق الذي يمزج السراني والتسبيحي، ثالثاً اللطم وهو على أساس النسق السراني الصرف.
وهنا أذكر دراسة لباحث في الجامعة الأنطونية وهو الشيخ أحمد همداني منشورة في العدد الأخير من مجلتنا العلمية الموسيقية وهو يعالج هذا الموضوع بشكل مفند.
في المحصلة، ترفد المفاهيم المقتبسة عن اللسانيات والسيمياء الموسيقية البحث الاستيتاقي بأدوات تحليلية قد تكون ناجعة تسهل عملية إستقراء البعد الروحي للجمال والبعد الديني الشعائري للفن وبخاصة الموسيقى وهو ما يشرع الأبواب المعرفية على انخراط هذه المواضيع والاهتمامات في المشاريع التربوية. ويأتي هذا السعي متوازياً مع السعي الآخر الى بناء فسحات من التجسير بين الإسلام والمسيحية في مصاديقهما الروحانية وفي مقارعتهما للحداثة العولمية ومساراتها التسطيحية الفتاكة.
كلمة الدكتور الجامعي محمد عليق وهو باحث في الحقل التربوي، له دراسة حول التربية الجمالية نال بها شهادة الدكتوراه بامتياز من جامعات الجمهورية الإسلامية الإيرانية :
سأتكلم في أفق ومجال ولغة آخرى عن تلك التي تحدث بها الدكتور نداء أبو مراد، كلامنا لا يتقابل ولا يتعارض بل إنه يتكامل، ما سأقوله وقد أسميناه ثلاثية العقل والتربية والجمال، هو محاولة للمضي برد اعتبار لعلم الجمال في التربية الإسلامية، وكلامي هنا عن فلسفة التربية الإسلامية وعن علم جمال من منطلق إسلامي، وعن إعادة اعتبار للعقل والعقل يدخل هنا. لأننا نحن جماعة الحسن العقلي إذ أن العقل لدينا يستشعر الجمال ويدركه ويميزه، والجمال أيضاً يتعامل مع العقل بشكل يتكامل معه عبر التربية، والكلام هنا عن فلسفة التربية الإسلامية الجديدة التي أُنتجت واُقرت في السنوات الأخيرة، والتي انطلقت بشكل كلاسيكي لتنتج تربية من مباني الفلسفة الإسلامية، فبحثت علم الوجود الانتولوجيا وعلم المعرفة الابستمولوجيا وعلم القيم الاكسلوجيا لتركّز على علم الجمال في القيم.
درجت العادة أنه عندما يبحث علم القيم يتم البحث في القيم الأخلاقية ويحرم الناس لسبب أو لآخر من التأصيل الجمالي وعلم الجمال، مع العلم أن الفلسفة الإسلامية على مرّ العصور بما هي من تكريم للعقل بحثت دائماً في الجمال وكان الفلاسفة والعلماء والحكماء هم من تكلموا في الجمال وأسسوا لعلمه، ونحن لدينا بعض الأبحاث التي تؤكد أن تأسيس علم الجمال نما في هذه البيئة الإسلامية مثل أبو حيان التوحيدي وهو المنظر في علم الجمال أو الحسن ابن الهيثم الذي تكلم في الجمال العملي وفي نسب الجمال والتناسب والتكثر والانسجام وغيرها.. وذلك كله قبل 400 سنة من الكلام عن هذا العلم في أوروبا، ولطالما كان العقل والجمال يسيران معاً.
نعم في هذه الفلسفة التربوية تم استعراض الوجود والمعرفة والقيم وتم التركيز على قيمة الجمال كتذوق وكإنتاج وادراك لهذا الجمال، مثل الفن فالفن هو تجسيد له، هذا في المباني أي في فلسفة هذه التربية قبل أن تنتج، عندما عرِفت هذه التربية عاد الجمال ليستقر أيضاً في مكانته اللائقة لأنه كان هناك ظلم للجمال ولعلمه وللفن، أذكر هنا قصة ينقلها السيد صادق الطبطبائي وهو ابن أخت السيد موسى الصدر حيث يقول أنه وعند استشهاد علي شريعتي أقمنا ذكرى أربعين في حسينية الارشاد في طهران، وفي هذه الذكرى جاءت فرقة موسيقية حيث كانت المرة الاولى التي يعزف فيها موسيقى في هذه الحسينية من أجل تكريم الشهيد، وكان الطبطبائي يرسل رسائل الى خاله يحدثه فيها عن الثورة وأفكارها، فأرسل له شريط مسجل عن هذا الاحتفال بما فيه عزف الفرقة الموسيقية فتأثر السيد موسى كثيراً لدرجة البكاء وقال: سبحان الله الفن في تاريخنا الإسلامي عندما شاهد جفاء بعض الحكام والعلماء هرب والتجأ الى عباءة الامام الحسين(ع) والآن ها هو بعد كل هذه القرون يطل من بيت الإمام الحسين (ع) في الحسينية.
اذاً ظلم الفن والجمال وعلم الجمال، ويقول الإمام الخامنئي(حفظه الله) أن هناك سوء تفاهم حصل وليس صراعاً حقيقياً بين الفن والإسلام، وإلا في تاريخنا الإسلامي ونحن على أعتاب أربعين الإمام الحسين(ع) حين نقول إن الإسلام حفظ عبر عاشوراء التي نقلت من جيل الى جيل، كيف تم هذا النقل ؟ ما الذي تحتويه مجالس العزاء الحسينية غير اللغة الشعرية الجمالية، هي تحتوي الشعر، الصوت الجميل، اللطم، الايقاع، اذاً هي تجربة جمالية بكل المعايير، اذاً من جيل الى جيل كان الفن ملتجئاً ومخبئاً في عباءة الامام الحسين (ع)، ولعل بقاء الإسلام ارتبط بمسيرة جمالية ضمنية مستترة.
اذاً عندما أتوا ليحددوا ماهية التربية ذكروا تعريف، وفيه تم حفظ حصة للبعد الجمالي والفني فقيل مثلاً ان التربية هي عملية تفاعلية تمهد لتشكيل هوية في الحياة الطيبة في كل الأبعاد ثم ذكروا هذه الأبعاد وهي ستة ومنها البعد أو الساحة الجمالية والفنية ليقال أنه كما أن هناك ساحة دينية بالمعنى الأخص أخلاقية وكما أن هناك ساحة علمية تقنية وساحة إقتصادية مهنية وأخرى بدنية حياتية وساحة إجتماعية سياسية، هناك ساحة أساسية إسمها ساحة التربية الجمالية والفنية. اذاً تربية الإنسان وصناعته، ولا نتكلم هنا عن تربية الأطفال بل التربية بشكلها الأعم، لا تكتمل إلا بالانسجام بين هذه الساحات الستة، وكإستطراد الجمال حين يطرح في المنظومة الإسلامية هو ليس أمراً ترفياً زائداً بل هو في قلب تربية الإنسان ليقال أن الجمال وإدراكه له مستويات، وإن التربية الاسلامية للإنسان هي بإنتقاله طوعاً واختياراً في درجات هذا الجمال من إحساسه بالجمال المحسوس المادي، وهذا أدنى درجات الوعي الجمالي الى إحساسه بالجمال النفسي وهذا أعلى بمرتبة من الذي سبقه. ثم إن الإحساس بالجمال العقلي وصولاً الى الجمال الإلهي المطلق الذي لا يمكن الوصول اليه إلا بهداية وإمامة العقل، فالعقل هنا أمام حركة الجمال، والجمال كحس وحاجة فطرية، فالشهيد مطهري يذكر أن الإنسان مفطور فيما يخص الجمال على أمرين: حب الجمال وصناعة الجمال، وهذا الجذب للإنسان يحصل بإختياره وتربيته وتنمية الحس الجمالي عنده من إدراكه للجمال من محسوسات وطبيعة، وهنا تبدأ الاختلافات مع النظرة الغربية في التربية أي المنهج التجريبي أو الوضعي الذي تهيمن عليه التجربة الملموسة الحسية، لكن هناك معرفة أخرى غير المعرفة العلومية التجريبية، هي المعرفة الجمالية والتي يجب أن تحترم لأنها ليست أمراً زائداً على التربية، هذا في تعريف صحة التربية وصولاً الى المنهاج الذي يعتبر الوصول الى الجمال والتدرب والتربي عليه اصلاً اساسياً.
اذاً نحن لدينا فلسفة أو منظومة تربوية اسلامية في مبانيها الفلسفية، هناك حضور لعلم الجمال في علم القيم كتكريس، اذ أننا نربي الإنسان، والانسان هو مخلوق جمالي أي إنه يجذب ويحب الجمال وهذا الأمر يقوده الى الارتقاء بحسه الجمالي بهداية العقل وهذا ما ينتج تعريف خاص وأهداف خاصة للتربية. اذاً كل ما ذكر هو محاولة لاعادة الاعتبار لعلم الجمال ولحل سوء التفاهم ولانتاج تربية يقودها العقل ووقودها الحس الجمالي، سوء التفاهم يذكره الإمام الخامنئي (دام ظله) حيث انه عندما يتكلم عن الموسيقى يقول إن الموسيقى هي فن وعلم وموهبة إلهية ويؤكد أن سوء الفهم الذي حصل بين العلماء والفنانيين ليس له علاقة بذاتية الفقه أو ذاتية الجمال والفن، فالقرآن الكريم كتاب التربية الأول لدينا هو تجربة جمالية بإمتياز، اذ يتمتع بلغة جمالية ، متن جمالي ، يجمع بين جمال النص والمضمون ، وكما يقول المربي الاعظم الامام الخامنئي :" لو لم يكن القرآن جمالياً لزال من الوجود منذ مئات السنين"، ويؤكد أن علم الجمال يجب أن يصبح هو أصلا حاكماً على كل الأعمال بما فيها التربية.
وكانت مداخلة للوزير السابق الدكتور طراد حمادة :
الجمال هو من القيم الإنسانية لكنه يتميز عن القيم الأخرى لأنه يبدو أن الروح الإنسانية تعبر عن وجدها وعطاءها في الجمال وبتعبير آخر نرى أن روح أي أمة من الأمم تعبر عن نفسها بإنتاجها الصناعي والزراعي والثقافي والأدبي والعلمي لكن أوج هذا التعبير عن ذاتها يكون عن طريق الإنتاج الجمالي أي الفن والموسيقى والشعر، لأن الجمال يشكل أكثر التعبيرات قرباً الى الله سبحانه وتعالى.
يقودنا هذا البحث عندما قام سقراط بالطلب من الرسام الفرنسي "كريون" برسم أجمل الاشياء، والفلاسفة يذهبون الى اعتبار أن الجمال هو مثل الروح المشعة في الكائن الجميل التي تحيي الجذب ونحن يجذبنا ماهو جميل ونحبه، اذاً هذا الأمر الذي نحبه يكون هو الروح المشعة والتي تجعلنا نعشقها، لكن السؤال هنا هل كل ما نعشقه جميلاً أم أن كل جميل يكون معشوقاً، وهذه إشكالية أخرى.
هذا الجذب يطرح مشكلة الوجد اي انه يجب ان يتحقق الوجد والانجذاب لما هو جميل وعشق هذا الجميل ثم التعبير عن الحب وهذا الأمر يكون مثلاً في الموسيقى والسؤال هنا هل الموسيقى هي تعبير عن عشق أو استجداء لعشق ما، وأذكر هنا حادثة للشيخ البهائي حيث عزف 15 مقاماً وكلما عزف مقاماً كان يقول هذا النوع من الموسيقى حرام الى أن كسر آلته الموسيقية فأحدث كسرها ضجة فقال هذه الموسيقى حلال.
في عاشوراء هناك تعبير ومستويات من الوجد الذاتي وعندما يكون التعبير باللغة يكون ناقصاً، فينتقل البعض الى مستويات أخرى مثل شق الثوب أو اللطم على الوجه، وهذا الامر هو تعبير عن حالة وجدية.
الجمال أو التجلي في الجمال يكون على مستوى وجودي ومعرفي أي أن نسبة الجمال المتحققة بالوجودية تكون مثلاً 50% في أمر ما. أنا قد أرى من هذا الجمال 20% وغيري قد يرى 40% هذا الاختلاف في رؤية الجمال يعود الى أن مرآة الشخص الداخلية هي انعكاس وتجلي لنفسه إذ أن لديه القدرة على رؤية الجمال وأن ينعكس الجمال في مرآة نفسه الجميلة والتي تحب الجمال، اذاً هذا القياس بين الجميل وعاشق الجمال هو نتاج التربية والتزكية الذاتية.
المداخلة الثانية :
لا يمكن أن يكون هناك كلام في الجمال دون وجود صفة الصدق، وما نلاحظه أن هذا النمط من الثقافة مفقود تعليمياً والمصنفة تربوياً، سماحة السيد القائد أكد انه في أصل وجود الفن.
المداخلة الثالثة :
سؤالي للدكتور نداء ابو مراد الا نحتاج الى منهجية خاصة توضح خطوات بناء جيل متذوق للجمال بشكل متوازي مع القيم الاخلاقية؟
رد الدكتور نداء ابو مراد :
ردّي على السؤال الذي وجه الي هو أنه من أساسيات او اولويات بناء جيل متذوق للجمال بشكل متوازي مع القيم الاخلاقية لا سيما داخل مجتمع ملتزم دينياً هي أن يتم موائمة بين العلم الديني والعلم الموسيقي.
انه الجمال والوعي الجمالي الذي بدأ عمره بتاريخ عمر الانسان ، فالانسان هو الكائن الوحيد الذي وهبه الله القدرة على الاحساس بالجمال وتذوق الفنون ، وبالتالي القدرة على الخلق والابداع في كل ما يتذوقه ويحيط به من مظاهر الحياة ، الجمال يبدو امامنا متجليا في كل ما نتأمله من آيات الانفس والافاق في كل ما ينطوي عليه الكون من نعم وموجودات ، هذا التأمل الجمالي هو الذي يغمر النفس بسعادة الاستمتاع بجمال الخلق والخالق فلا تبقى هذه السعادة حبيسة النفس فكما تدفعها الى الايمان بخالقها تدفعها الى التعبير عن هذا الجمال ، فالجمال شكل من اشكال الفكر المنعكس على نشاطه الذاتي ليدفع الانسان على تشييد المعابد والقصور والى نقش العمارات ورسم اللوحات وتأليف الانغام والالحان والسينفونيات ونظم الاشعار .
القرآن الكريم يحفل بالكثير من آياته بدعوة الناس الى استلهام عظمة الكون وروعته في دعوة لا تهدف الى تحسين حال الانسان بالاستفادة من المقدرات المادية فحسب بل تدعو الى تهذيب الاحسان الانساني بالجمال ، واذا كان الدين الاسلامي يدعو اهل الكتاب الى التلاقي على قاعدة التوحيد ونفي الشرك، الا يشكل الاحساس بالجمال وتذوقه قاعدة اخرى في عالم تشتبك فيها الايديولوجيات وتتصارع فيها المنظومات الاخلاقية وخصوصا ان القيم الجمالية هي قيم موجودة ومشتركة بين اتباع الديانات الابراهيمية ، هذا المحور سوف يتناوله الدكتور في علم الموسيقى نداء ابو مراد تحت عنوان " اهمية القيم الجمالية بين الاسلام والمسيحية ".
ننتقل الى المحور الثاني رغم الوضوح والاحساس الكامل بالجمال الا ان الظاهرة الجمالية ليست فلسفة فردية استحسنها الآخرون فأضحت مذهباً وليست مدرسة فكرية تعاونت العقول على انتاجها فأضحت فلسفة ، انها كيان قائم في ذاتية الاشياء التي نعيشها تدخل في شكلها وتناقسها ولونها وتنظيمها انها تلتقي بالتربية العامة وبالمنهج التربوي المراد تحقيقه في كيان الانسان المسلم من المهد الى اللحد ، فالجمال يدخل في كيان التربية العامة ليصبح سمة من سماتها وخاصة من خصائصها وهو لا يقوم بنفسه منحازاً عن الاشياء العينية بل يدخل في كافة المناحي التي تدخل فيها العملية التربوية يدخل في المنهج التربوي ليغدو سمة فيما يهدي اليه وسمة في الوسيلة التي يتخذها المربون للوصول الى الغاية المنشودة ، فكلما كان الانسان اكثر التصاقا بالمنهج التربوي كلما كان أكثر إحساساً بالجمال وأكثر تحقيقاً له في نفسه وفي الواقع من حوله. إذاً هل نحن بحاجة الى اجراءات خاصة لإيقاظ الحسّ الجمالي وتربيته لدى الانسان، ما هي الجوانب الجمالية في العملية التربوية التي تعتمد تعليم المنهج القويم، وما هي الآثار الجمالية لهذه التربية. هذه الأسئلة وغيرها سيجيب عنها الدكتور محمد عليق تحت عنوان " دور القيم الجمالية في العملية التربوية ".
البداية مع الدكتور في علم الموسيقى نداء ابو مراد ودكتور في الطب البشري، يشغل حالياً منصب المدير المعهد العالي للموسيقى في الجامعة الانطونية، مدير دار نشر الأنطونية ورئيس تحرير مجلة "التقاليد الموسيقية في العالمين العربي والمتوسطي"، الدكتور أبو مراد معروف على الصعيد العالمي كباحث أكاديمي ومؤلف موسيقي مختص بالنهج التقليدي التأويلي، له 19 قرصاً مدمجاً ودراسات أكاديمية عديدة منشورة في الموسوعات والمجلات العلمية.
كلمة الدكتور نداء أبو مراد
أود توجيه الشكر لكم على دعوتي وأود التعبير عن سعادتي لوجودي بينكم وبين هذا الحضور من اصفياء القلوب وخيرة الفكر في هذا المجتمع. هذه الورقة بعنوان "أهمية القيم الجمالية بين الإسلام والمسيحية ".
في السعي الى التحاور والتلاقي بين المسلمين والمسيحيين يمكن تحديد دوائر متعددة لتجسيد مساحات التجسير، هي الدائرة الروحانية والدائرة العقائدية والدائرة الاخلاقية والدائرة الإجتماعية، ولا بد من إعتبار الدائرة الروحانية جسراً مميزاً للإلتقاء بين السالكين المستنيرين على تعدد مشاربهم العقيدية خاصة بين المسيحية المتمحورة على تقاليد آباء الكنيسة الشرقية وإسلام عرفاني، وتتواصل هذه الفسحة التقاطعية مع فسحة التلاقي في موضوع الجمالية أو علم الجمال أو بالأحرى إدراك الجمال الإستاتيقي، وخير دليل على هذا التقارب الروحاني الديني الجمالي في الإسلام العرفاني هو التركيز على الحديث الشريف " إن الله جميل يحب الجمال " وفي تقليد آباء الكنيسة هو تسمية أهم كتاب مستيكي أو صوفي وهو " الفيلوكاليا " أي حب الجمال وهو الجمال الإلهي المقترن بوجه السيد المسيح.
وبما أن إدراك الجمال يصبح من هذا المنظار شأنا دينيا روحياً وروحانياً، لا بد من إجراء معاينة مقارنة للسياقين الإسلامي والمسيحي ولمندرجاته السيميائية ويتشاطر ذلك السياقان التقليديان تحدي الحداثة لهما في هذا المضمار وذلك من منظار المرجعية وتقابل الإعتبارين الموضوعي الإلهي والذاتي الفردي لتحديد إطار الجمال وإدراكه وهو يشمل إدراك مفهوم التجلي الجمالي في مساره الكياني الوجودي والتجسير بين العالمين العلوي والسفلي وذلك ايضاً من المنظارين الإسلامي والمسيحي، وهذا ما يشكل لبّ القسم الأول من هذه الورقة، أما القسم الثاني فيحاول إستقراء مصاديق ذلك التجلي من خلال تعيين مثلث سيميائي للأنساق الاستيتيقية الأناسية الثقافية التي على أساسها يفترض أن تتحقق تلك المصاديق الجمالية وذلك في مسار إجرائي متكامل مع مسلك سيميائي آخر وإدراكي معرفي أساسي آخر، يمكن وصفه بالكلي أي المشترك البشري.
نبدأ الآن بالقسم الأول: المرجعية الجمالية بين التقليد والحداثة:
ثمة مفهومان نظاميان يتصارعان في تحديد مرجعية الجمالية هما التقليد والحداثة، التقليد في معناه القوي الشريف هو منظومة موضوعية مقترنة بنظام معياري ودلالي ورمزي يحيل الى مرجع منزه متعالي ويتعدى مفهوم التقليد التسليمي بمعنى " قلد زيد عمر أمانة " مفهوم التراث ويحتويه في آن، فهو يراكم دلالة آلية انتقال موروث ما مع دلالة أخرى هي آلية تأويل الموروث لصنع ما هو جديد وذلك بالاضافة الى دلالة الرصيد الموروث المعهودة، وفي المقابل يتماهى المعنى الضعيف لمفهوم التقليد مع إجراء التكرار الحرفي للتراث أي الاجترار " قلد زيد عمر في أمر ما "، في حين يمكن إعتبار التقليد التسليمي انه إجراء لتعلم اللسان وهو ليس بالضرورة كلامياً في نطاق إنساني معين كما هو إجراء لتحقيق ذلك اللسان واستنطاقه. وفي هذا المعنى ثمة تعميم لمثلث " اللغة/ اللسان/ الكلام" على أوجه متعددة من الأنظمة التواصلية التعبيرية الإنسانية وهذا هو فحوى مفهوم "السيمياء"، والتالي إنه إعتبار سيميائي للتقليد على أساس تعريف السيمياء أنها دراسة أنظمة العلامات وإجراءات الدلالة المقترنة بها. إنطلاقا من منظومة اللغوية التقليدية فإنها تقترن بنحو تقليدي يمكّنها من إنتاج ما هو جديد على أساس النماذج والقواعد الموروثة.
أما الحداثة فهي منظومة ذاتية الطبع مقترنة بنظام دلالي ورمزي معياري يحيل الى مرجع كامل ذاتي إنساني فردي وهي منظومة تهدف الى إنتاج ما هو جديد على أساس معياري ذاتي متغير قد يكون إعتباطي المنشأ، أما الجمال وإدراكه الإستاتيقي فيختلف التقليد مع الحداثة في التدليل عليه وتحديداً فإن الإنتقال من التقليد الى الحداثة وبخاصة من التقليد التسليمي في معناه الشريف أو القوي يستدعي الإنتقال من معايير الجمال المطلقة المرتبطة بالإله الى معايير الذوق الذاتي الإنساني الفردي أو الجماعي.
أما المسيحية الإبائية والإسلام العرفاني ومن باب إقترانهما بالصراط الإطلاقي للتقليد فيبنيان رؤى محددة لمقارنة الجمال وتجلياته ومدراكاته الإستيتاقية، في تقليد آباء الكنيسة اللاهوتي الشعائري إن الإنسان الذي خلقه الله على صورته ومثاله مدعو للتأله طالما تأنسن الله ليألّه الإنسان من خلال نعمة مشاركة اللاهوت والماسوت وهذا صلب العقيدة الإبائية التي تتجلى في المسيحية الأرثوذوكسية.
وإنطلاقاً من التجلي المقترن بالتأنسن فإن الأيقونة والترنيم الكنسي يشكلان إنطلاقاً للتجلي الجمالي والدلالي الرمزي الإلهي، من هذا المنطلق تضحي هذه الأمور المعطاة في الإطار الإنساني إنما معطاة على أساس رمزي إلهي وتصبح إطاراً للتجلي كما يكونان إطاراً للدفع بمسار إحياء الإنسان بملأ الحياة الألهية، ومن هنا ينزل ويستوطن الذهن في القلب حيث ينفتح على النور الإلهي غير المخلوق في الروح القدس بمعناه المسيحي ويتم توحيد حواس هذا الإنسان في القلب لتتلقى الجمال الإلهي سمعاً ورؤيةً كمدخل لتقديس النفس والبدن.
أما الإسلام العرفاني وبخاصة في مذهب الحكمة المتعالية فهو يتلاقى مع آباء الكنيسة في مفهوم التألّه الإنساني الذي ينظر له الملا صدرا الشيرازي ويبرز في غمار هذا الفكر انه ثمة ملتقى برزخي بين العالمين العلوي والسفلي، وهو عالم المثال وهو يجسر بين المعقول والمحسوس حيث يتروحن البدن وتتشكل الأرواح وتنوجد الأشكال العلوية، ولا يمكن للأشكال العلوية أن تدرك إلا من خلال عضو التخيل المبدع وبالتالي فإن العالم يدرك على أنه مرآة للباري سبحانه وتعالى وبالتالي فإن الفنون السامية ومنها الموسيقى تؤخذ على أنها تجليات وتمظهرات إلهية (أقله لدى حكماء الجمهورية الإسلامية في إيران على سبيل المثال) يتم الإستشعار بها في حال الوجد وهذا ما يتبدى من خلال النص لمحي الدين إبن عربي " المستَنوِن في الفتوحات المكية "، وفي الحديث الشريف المعروف: " خروج النفس عن أصل محبة في الخلق الذي يريد التعرف إليهم ليعرفوه، وإنما حبنا إياه بدأه السمع لا الرؤية وقوله لنا ونحن في جوهر العماء "قل" فالعماء من تنفسه والصور المعبر عنها بالعالم من كلمة "كن" فنحن كلماته التي لا تنفذ، وكلمته ألقاها الى مريم وهي عيسى وروح منه وهو النفس فلما سمعنا كلامه ونحن ثابتون في جوهر العماء لم نتمكن من التوقف عن الوجود فهذا كان سبب بدأنا حبنا إياه ولهذا نتحرك ونطيب عند سماع النغمات لأجل كلمة كن الصادرة من الصورة الإلهية غيباً وشهادة ".
القسم الثاني والأخير من هذه الورقة البحثية حاولت أن أعالج فيه مثلث الأنساق الاستيتاقية الإناسية الثقافية وهو مثلث سيميائي. في معرض معاينة رمزية المنظومات التعبيرية التواصلية المنخرطة في الإدراك الإستيتيقي وفي السياق العبادي الديني لا بد من إيلاء المقاربة السيميائية للترنيم قسطاً من الإهتمام وتقيم نظرية السيمياء المقامية تمييزاً أساسياً بين سيمياء ضمنية ذاتية مرتبطة بالكليات الإدراكية ومرتكزة على معلَمة اللحن في تشكيلها التركيبي أي النحوي التوليدي للبنى العميقة الخلفية للنص الموسيقي وبين سيمياء إيحالية مرتبطة بالمندرجات الأستروبية الثقافية ومرتكزة على معلَمة الزمن أي على الإيقاع. أما السيمياء المقامية الضمنية المؤثرة في البنى الخلفية فهي لا تخضع كثيراً لسلطة الشعائرية الثقافية وهي التي يأتي على ذكر مفاعيلها مطلع كتاب بعنوان " الشجرة ذات الأكمام الحاوية أصول الأنغام " كتاب من القرن السابع للميلاد مجهول المؤلف، والمطلع يقول: "سبحان من أبدع وأودع في الأنغام أسراراً خفية وأجرى على قلوب من شاء تحقيق مبانيها الأصلية وغرس أصولها في فكر ذوي الألباب النورانية فاهتدوا بتوفيقه لإستخراج فروعها اليانعة البهية فهو القديم الذي حمَل فروع تلك الأصول بطيب الثمرات ثمرات الشهية وهامت عند استماع اصطكاك أغصانها قلوب أهل العرفان الرضية وشوَقهم بها الى حضراته العليَة القدسية، أحمده فأشكره شكراً يليق بصفاته المنزهة لا إله الا هو وحده لا شريك له هو المنفرد بالوحدانية.
أما السيمياء الموسيقية الثانية التي تهمنا هنا هي الأسلوبية الايقاعية وهي تمثل نطاقاً مثالياً لإستقراء مفاعيل مندرجات الاستاتيق والشعائر الدينية على إنتاج النص الموسيقي وبالفعل يمثل الأسلوب الإيقاعي المعتمد في تشكيل المستوى الأمامي من النص الموسيقي المقامي حيزاً رئيسياً للتماس القائم بين النحو المقامي التوليدي المشترك بين التقاليد الموسيقية الحاوية للنصوص المقامية الوليدة، وبين الإعتبار الثقافي السياقي لذلك التوليد ويأخذ هذا التوليد شكل البصمة التي تضعها مقومات الشعائر الدينية الثقافية في طيّات الفعل الموسيقي، وتندرج هذه المقومات في سياقين متوازيين هما: الوزن الكلامي والوزن الحركي، أي بصمة الكلام الشعائري وبصمة الحركة الشعائرية على تكوين إيقاع النص الموسيقي وتتوازى هذه الجدلية مع نظيرتها القائمة بين مفاعيل الكلمة ومفاعيل النغمة ويمكن العودة الى المقاربة الأستيتقية الخاصة بفريدريك نيتش في" ولادة تراديديا " والى تبيانه نسقين عباديين أساسيين في تكوين الفنون في الحضارة الإغريقية الوثنية هما: النسق الابولوني والنسق الثيونيسي ويشكل لهما مفهوما النسق التسبيحي الصوفي والنسق السراني العرفاني امتداداً إجرائياً يمكن سحبه على نطاقات عبادية أخرى غير وثنية، وهكذا يضحي النسق التسبيحي مقترناً ببصمة الشعر المنشد والنسق السراني مقترناً ببصمة المجاوبة، وقد اقترحنا إضافة نسق آخر نسميه بالتوحيدي التبليغي المعتمد على التلاوة المرنمة للنثر الديني وهذا النسق التوحيدي هو من إطار الديانات السماوية. وهنا القراءة المنغمة للآيات القرآنية أو التلاوة المرنمة وبالتالي يتشكل مثلث نسقي إستيتيقي على أساس هيمنة أحد النموذجين المذكورين الكلامي في مقابل الحركي واللحني أو تكافئهما من منظور التأثير، وتلك الأنساق هي :
1. النسق التبليغي الكلامي التوحيدي الصرف أي الابراهيمي حيث يهيمن النموذج الكلامي والتلاوة المرنمة.
2. النسق الذي يمزج بين السراني والتسبيحي.
3. النسق السراني الصرف.
وكمثال على هذه الأنساق، فتلاوة الآيات القرآنية الكريمة هي على أساس النسق التبليغي الكلامي الصرف، ثانياً ترنيم الرثاء على النسق الذي يمزج السراني والتسبيحي، ثالثاً اللطم وهو على أساس النسق السراني الصرف.
وهنا أذكر دراسة لباحث في الجامعة الأنطونية وهو الشيخ أحمد همداني منشورة في العدد الأخير من مجلتنا العلمية الموسيقية وهو يعالج هذا الموضوع بشكل مفند.
في المحصلة، ترفد المفاهيم المقتبسة عن اللسانيات والسيمياء الموسيقية البحث الاستيتاقي بأدوات تحليلية قد تكون ناجعة تسهل عملية إستقراء البعد الروحي للجمال والبعد الديني الشعائري للفن وبخاصة الموسيقى وهو ما يشرع الأبواب المعرفية على انخراط هذه المواضيع والاهتمامات في المشاريع التربوية. ويأتي هذا السعي متوازياً مع السعي الآخر الى بناء فسحات من التجسير بين الإسلام والمسيحية في مصاديقهما الروحانية وفي مقارعتهما للحداثة العولمية ومساراتها التسطيحية الفتاكة.
كلمة الدكتور الجامعي محمد عليق وهو باحث في الحقل التربوي، له دراسة حول التربية الجمالية نال بها شهادة الدكتوراه بامتياز من جامعات الجمهورية الإسلامية الإيرانية :
سأتكلم في أفق ومجال ولغة آخرى عن تلك التي تحدث بها الدكتور نداء أبو مراد، كلامنا لا يتقابل ولا يتعارض بل إنه يتكامل، ما سأقوله وقد أسميناه ثلاثية العقل والتربية والجمال، هو محاولة للمضي برد اعتبار لعلم الجمال في التربية الإسلامية، وكلامي هنا عن فلسفة التربية الإسلامية وعن علم جمال من منطلق إسلامي، وعن إعادة اعتبار للعقل والعقل يدخل هنا. لأننا نحن جماعة الحسن العقلي إذ أن العقل لدينا يستشعر الجمال ويدركه ويميزه، والجمال أيضاً يتعامل مع العقل بشكل يتكامل معه عبر التربية، والكلام هنا عن فلسفة التربية الإسلامية الجديدة التي أُنتجت واُقرت في السنوات الأخيرة، والتي انطلقت بشكل كلاسيكي لتنتج تربية من مباني الفلسفة الإسلامية، فبحثت علم الوجود الانتولوجيا وعلم المعرفة الابستمولوجيا وعلم القيم الاكسلوجيا لتركّز على علم الجمال في القيم.
درجت العادة أنه عندما يبحث علم القيم يتم البحث في القيم الأخلاقية ويحرم الناس لسبب أو لآخر من التأصيل الجمالي وعلم الجمال، مع العلم أن الفلسفة الإسلامية على مرّ العصور بما هي من تكريم للعقل بحثت دائماً في الجمال وكان الفلاسفة والعلماء والحكماء هم من تكلموا في الجمال وأسسوا لعلمه، ونحن لدينا بعض الأبحاث التي تؤكد أن تأسيس علم الجمال نما في هذه البيئة الإسلامية مثل أبو حيان التوحيدي وهو المنظر في علم الجمال أو الحسن ابن الهيثم الذي تكلم في الجمال العملي وفي نسب الجمال والتناسب والتكثر والانسجام وغيرها.. وذلك كله قبل 400 سنة من الكلام عن هذا العلم في أوروبا، ولطالما كان العقل والجمال يسيران معاً.
نعم في هذه الفلسفة التربوية تم استعراض الوجود والمعرفة والقيم وتم التركيز على قيمة الجمال كتذوق وكإنتاج وادراك لهذا الجمال، مثل الفن فالفن هو تجسيد له، هذا في المباني أي في فلسفة هذه التربية قبل أن تنتج، عندما عرِفت هذه التربية عاد الجمال ليستقر أيضاً في مكانته اللائقة لأنه كان هناك ظلم للجمال ولعلمه وللفن، أذكر هنا قصة ينقلها السيد صادق الطبطبائي وهو ابن أخت السيد موسى الصدر حيث يقول أنه وعند استشهاد علي شريعتي أقمنا ذكرى أربعين في حسينية الارشاد في طهران، وفي هذه الذكرى جاءت فرقة موسيقية حيث كانت المرة الاولى التي يعزف فيها موسيقى في هذه الحسينية من أجل تكريم الشهيد، وكان الطبطبائي يرسل رسائل الى خاله يحدثه فيها عن الثورة وأفكارها، فأرسل له شريط مسجل عن هذا الاحتفال بما فيه عزف الفرقة الموسيقية فتأثر السيد موسى كثيراً لدرجة البكاء وقال: سبحان الله الفن في تاريخنا الإسلامي عندما شاهد جفاء بعض الحكام والعلماء هرب والتجأ الى عباءة الامام الحسين(ع) والآن ها هو بعد كل هذه القرون يطل من بيت الإمام الحسين (ع) في الحسينية.
اذاً ظلم الفن والجمال وعلم الجمال، ويقول الإمام الخامنئي(حفظه الله) أن هناك سوء تفاهم حصل وليس صراعاً حقيقياً بين الفن والإسلام، وإلا في تاريخنا الإسلامي ونحن على أعتاب أربعين الإمام الحسين(ع) حين نقول إن الإسلام حفظ عبر عاشوراء التي نقلت من جيل الى جيل، كيف تم هذا النقل ؟ ما الذي تحتويه مجالس العزاء الحسينية غير اللغة الشعرية الجمالية، هي تحتوي الشعر، الصوت الجميل، اللطم، الايقاع، اذاً هي تجربة جمالية بكل المعايير، اذاً من جيل الى جيل كان الفن ملتجئاً ومخبئاً في عباءة الامام الحسين (ع)، ولعل بقاء الإسلام ارتبط بمسيرة جمالية ضمنية مستترة.
اذاً عندما أتوا ليحددوا ماهية التربية ذكروا تعريف، وفيه تم حفظ حصة للبعد الجمالي والفني فقيل مثلاً ان التربية هي عملية تفاعلية تمهد لتشكيل هوية في الحياة الطيبة في كل الأبعاد ثم ذكروا هذه الأبعاد وهي ستة ومنها البعد أو الساحة الجمالية والفنية ليقال أنه كما أن هناك ساحة دينية بالمعنى الأخص أخلاقية وكما أن هناك ساحة علمية تقنية وساحة إقتصادية مهنية وأخرى بدنية حياتية وساحة إجتماعية سياسية، هناك ساحة أساسية إسمها ساحة التربية الجمالية والفنية. اذاً تربية الإنسان وصناعته، ولا نتكلم هنا عن تربية الأطفال بل التربية بشكلها الأعم، لا تكتمل إلا بالانسجام بين هذه الساحات الستة، وكإستطراد الجمال حين يطرح في المنظومة الإسلامية هو ليس أمراً ترفياً زائداً بل هو في قلب تربية الإنسان ليقال أن الجمال وإدراكه له مستويات، وإن التربية الاسلامية للإنسان هي بإنتقاله طوعاً واختياراً في درجات هذا الجمال من إحساسه بالجمال المحسوس المادي، وهذا أدنى درجات الوعي الجمالي الى إحساسه بالجمال النفسي وهذا أعلى بمرتبة من الذي سبقه. ثم إن الإحساس بالجمال العقلي وصولاً الى الجمال الإلهي المطلق الذي لا يمكن الوصول اليه إلا بهداية وإمامة العقل، فالعقل هنا أمام حركة الجمال، والجمال كحس وحاجة فطرية، فالشهيد مطهري يذكر أن الإنسان مفطور فيما يخص الجمال على أمرين: حب الجمال وصناعة الجمال، وهذا الجذب للإنسان يحصل بإختياره وتربيته وتنمية الحس الجمالي عنده من إدراكه للجمال من محسوسات وطبيعة، وهنا تبدأ الاختلافات مع النظرة الغربية في التربية أي المنهج التجريبي أو الوضعي الذي تهيمن عليه التجربة الملموسة الحسية، لكن هناك معرفة أخرى غير المعرفة العلومية التجريبية، هي المعرفة الجمالية والتي يجب أن تحترم لأنها ليست أمراً زائداً على التربية، هذا في تعريف صحة التربية وصولاً الى المنهاج الذي يعتبر الوصول الى الجمال والتدرب والتربي عليه اصلاً اساسياً.
اذاً نحن لدينا فلسفة أو منظومة تربوية اسلامية في مبانيها الفلسفية، هناك حضور لعلم الجمال في علم القيم كتكريس، اذ أننا نربي الإنسان، والانسان هو مخلوق جمالي أي إنه يجذب ويحب الجمال وهذا الأمر يقوده الى الارتقاء بحسه الجمالي بهداية العقل وهذا ما ينتج تعريف خاص وأهداف خاصة للتربية. اذاً كل ما ذكر هو محاولة لاعادة الاعتبار لعلم الجمال ولحل سوء التفاهم ولانتاج تربية يقودها العقل ووقودها الحس الجمالي، سوء التفاهم يذكره الإمام الخامنئي (دام ظله) حيث انه عندما يتكلم عن الموسيقى يقول إن الموسيقى هي فن وعلم وموهبة إلهية ويؤكد أن سوء الفهم الذي حصل بين العلماء والفنانيين ليس له علاقة بذاتية الفقه أو ذاتية الجمال والفن، فالقرآن الكريم كتاب التربية الأول لدينا هو تجربة جمالية بإمتياز، اذ يتمتع بلغة جمالية ، متن جمالي ، يجمع بين جمال النص والمضمون ، وكما يقول المربي الاعظم الامام الخامنئي :" لو لم يكن القرآن جمالياً لزال من الوجود منذ مئات السنين"، ويؤكد أن علم الجمال يجب أن يصبح هو أصلا حاكماً على كل الأعمال بما فيها التربية.
وكانت مداخلة للوزير السابق الدكتور طراد حمادة :
الجمال هو من القيم الإنسانية لكنه يتميز عن القيم الأخرى لأنه يبدو أن الروح الإنسانية تعبر عن وجدها وعطاءها في الجمال وبتعبير آخر نرى أن روح أي أمة من الأمم تعبر عن نفسها بإنتاجها الصناعي والزراعي والثقافي والأدبي والعلمي لكن أوج هذا التعبير عن ذاتها يكون عن طريق الإنتاج الجمالي أي الفن والموسيقى والشعر، لأن الجمال يشكل أكثر التعبيرات قرباً الى الله سبحانه وتعالى.
يقودنا هذا البحث عندما قام سقراط بالطلب من الرسام الفرنسي "كريون" برسم أجمل الاشياء، والفلاسفة يذهبون الى اعتبار أن الجمال هو مثل الروح المشعة في الكائن الجميل التي تحيي الجذب ونحن يجذبنا ماهو جميل ونحبه، اذاً هذا الأمر الذي نحبه يكون هو الروح المشعة والتي تجعلنا نعشقها، لكن السؤال هنا هل كل ما نعشقه جميلاً أم أن كل جميل يكون معشوقاً، وهذه إشكالية أخرى.
هذا الجذب يطرح مشكلة الوجد اي انه يجب ان يتحقق الوجد والانجذاب لما هو جميل وعشق هذا الجميل ثم التعبير عن الحب وهذا الأمر يكون مثلاً في الموسيقى والسؤال هنا هل الموسيقى هي تعبير عن عشق أو استجداء لعشق ما، وأذكر هنا حادثة للشيخ البهائي حيث عزف 15 مقاماً وكلما عزف مقاماً كان يقول هذا النوع من الموسيقى حرام الى أن كسر آلته الموسيقية فأحدث كسرها ضجة فقال هذه الموسيقى حلال.
في عاشوراء هناك تعبير ومستويات من الوجد الذاتي وعندما يكون التعبير باللغة يكون ناقصاً، فينتقل البعض الى مستويات أخرى مثل شق الثوب أو اللطم على الوجه، وهذا الامر هو تعبير عن حالة وجدية.
الجمال أو التجلي في الجمال يكون على مستوى وجودي ومعرفي أي أن نسبة الجمال المتحققة بالوجودية تكون مثلاً 50% في أمر ما. أنا قد أرى من هذا الجمال 20% وغيري قد يرى 40% هذا الاختلاف في رؤية الجمال يعود الى أن مرآة الشخص الداخلية هي انعكاس وتجلي لنفسه إذ أن لديه القدرة على رؤية الجمال وأن ينعكس الجمال في مرآة نفسه الجميلة والتي تحب الجمال، اذاً هذا القياس بين الجميل وعاشق الجمال هو نتاج التربية والتزكية الذاتية.
المداخلة الثانية :
لا يمكن أن يكون هناك كلام في الجمال دون وجود صفة الصدق، وما نلاحظه أن هذا النمط من الثقافة مفقود تعليمياً والمصنفة تربوياً، سماحة السيد القائد أكد انه في أصل وجود الفن.
المداخلة الثالثة :
سؤالي للدكتور نداء ابو مراد الا نحتاج الى منهجية خاصة توضح خطوات بناء جيل متذوق للجمال بشكل متوازي مع القيم الاخلاقية؟
رد الدكتور نداء ابو مراد :
ردّي على السؤال الذي وجه الي هو أنه من أساسيات او اولويات بناء جيل متذوق للجمال بشكل متوازي مع القيم الاخلاقية لا سيما داخل مجتمع ملتزم دينياً هي أن يتم موائمة بين العلم الديني والعلم الموسيقي.
آخر تحديث : 2022-11-22
تعليقات