الى الاعلى
  • العلم أصل كل خير، الجهل أصل كل شر " الإمام علي (ع)"

التربية والتعليم عند الشيعة (الدور التربوي لشيعة لبنان حقبة الحكم العثماني والإنتداب الفرنسي والحقبة القريبة له نموذجًا) 


توليف:  مرشد الدراسات الأكاديمية في المركز د. علي الرضا فارس

 

 

التربية والتعليم عند شيعة لبنان في زمن الحكم العثماني


في العام 1516 م سقط حكم المماليك بعد انتصار العثمانيين عليهم في معركة مرج دابق، فوقعت بلاد الشام والتي كان لبنان من ضمنها تحت تأثير حكم سياسي جديد، ومع وجود هذا الحكم الجديد تقلصت الحركة العلمية عند الشيعة التي كانت ضعيفةً أصلاً، فتشتت علماؤهم نتيجةً للاضطهاد وتقهقر الوضع التعليمي عندهم بسبب عدّة أمور منها "أنّ الطائفة الشيعية لم تكن مساندة من أي دولة أو سلطة تعليمية روحية خارجية، بل كانت مضطهدة من قبل المماليك أولاً ومن قبل الأتراك ثانيًا" (المقداد، 1999، صفحة 40) وهذا الاضطهاد كان نتيجة الاختلاف العقائدي بين الشيعة من جهة  وعقيدة السلطات الحاكمة من جهةٍ أخرى (المقداد، 1999، صفحة 84). وقد وصل هذا الاضطهاد لذروته في زمن أحمد باشا الجزار خلال حوادث 1780 م، حيث قاموا بنهب وإبادة وحرق مكتبات الشيعة، فيقال بأنّ أفران عكّا بقيت لأيّام عدّة وهي تحرق من كتب العامليين (الفقيه، 1986، صفحة 10)، فقضي على 440 عامًا كان جبل عامل فيها مقرًّا لرجال الدين والعلماء والأدباء الذين الّفوا الكتب وتوارثوها بين الأجيال (الأمين، 2003، صفحة 283)

 

خلال الحقبة العثمانية طغى على التعليم عند الشيعة الجهود الفردية لبعض رجال الدين حيث كانوا يقومون بتلقين تعاليم المذهب وتاريخ التشيع من باب حماية المذهب، إضافةً لتعليم اللغة العربية وبعض القواعد الحسابية البسيطة (المقداد، 1999، الصفحات 84-85)، وبعد موت أحمد باشا الجزار في العام 1804 م عادت الحياة التعليمية عند الشيعة لليقظَة، فنشطوا في مجال التعليم الذي كان بمعظمه تحت شجرة معمّرة مع المواد التعليمية نفسها، خاصّةً في القرى التي كانت محرومة من وجود المدارس بشكلها الحديث مقابل المدن (بزي، 1995، صفحة 238).

 

قانون العام 1869 م كان نقطة تحوّل، حيث تمحور حول اعتراف الدولة العثمانية بالوجود الرسمي للمدارس الخاصة الطوائفية كقطاع تربوي مستقل، حيث ترك لكل فئة إدارة أمورها الثقافية التربية بشكلٍ منفصل من خلال فتح المجال لتربية أبنائها بالشكل الذي تراه مناسبًا لها ولثقافتها (قبيسي، 1999، صفحة 113)، وبناءً على هذا القانون تفرّعت مدارس للمسيحيين ومدارس أخرى خاصّة بالمسلمين (فارس، 1961، صفحة 261). وقد استفادت منطقة جبل عامل من هذا القانون من خلال نشوء عدّة مدارس منها ما كان يتبع للإرساليات المسيحية، وبعضها الآخر كان ملحقًا بمساجد إسلاميّة (كوثراني، 1982، صفحة 113). ففي العام 1882 م أسس رضا الصلح مدرسة النبطية الحديثة التي استطاعت بما لديها أن تطوّر المستوى التربوية للبيئة العاملية في تلك المنطقة (آل صفا، 1981، صفحة 250)، وهي أوّل مدرسة ذات توجّه شيعي تعتمد على مناهج جديدة وقد ضمّت 60 تلميذًا من النبطية وجوارها (رضا، 2013، صفحة 73).
ثم تأسست المدارس الشيعية تباعًا، فاستطاعوا أن يصنعوا من "الحرمان أكبر النجاحات" (بزي، 1995، صفحة 12)، وجاء تأسيس هذه المدارس بناء لطلب الأهالي من جهة، بهدف إبعاد أبنائهم عن التعلم في الإرساليات المسيحية، وبدعم من المراجع والحوزات الدينية من جهةٍ أخرى، حيث كان يعدّ تأمين العلم موردًا من موارد صرف الحقوق الشرعية (الخمس)، وبهذا يظهر بأنّ النظام الفقهي الخاص عند الشيعة قد ساهم باستمراريتهم ودفع بهم قدمًا نحو الأمام على الصعيد التربوي.

 

 

التربية والتعليم عند شيعة لبنان في زمن الإنتداب الفرنسي


حل "الفرنسيون في لبنان وسوريا كمستعمرين بسيف الانتداب" (Rabbath, 1973, p. 333)، وذلك بموجب اتفاقية سايكس بيكو التي تقاسمت فرنسا وبريطانيا بموجبها التركة العثمانية، حيث أعلن الجنرال غورو في العام 1920 م دولة لبنان الكبير.


مرحلة الانتداب الفرنسي كانت مرحلةً سيّئةً على الصعيد التعليمي والتربوي للشيعة في لبنان، ففي العام 1924 م ساد الإهمال المتعمد والفقر مناطق جبل عامل، مما اضطرّ الأولاد بعمر الدراسة للعمل، فانتشرت الأميّة حيث أنّه في ذاك العام بلغت نسبة "الطلاب الشيعة في التعليم الخاص 0.25%" (قبيسي، 1999، صفحة 127)، وكذلك في نفس العام ضمن المدارس التابعة للطوائف نجد أنّه من أصل 55358 تلميذًا وتلميذةً ينتشرون في 722 مدرسة تدرس باللغة الفرنسية شكّل المسيحيون 46408 تلميذ، المسلمين السنّة 7839 تلميذ، الدروز 1015 تلميذ، المسلمين الشيعة 96 تلميذ (ضاهر، 1974، صفحة 187)، وبذلك يظهر تدني المستوى التعليمي لدى الشيعة في تلك الفترة. كما أشار إحصاء العام 1932 م إلى انّ نسبة الأميّة في لبنان بلغت 54%، أما عند الشيعة فكانت 83%، عند السنّة 66%، عند الموارنة 48%، عند الكاثوليك 39% (قبيسي، 1999، صفحة 119).
والجدول الآتي يُظهر التوزع الطائفي للمدارس في دولة لبنان الكبير في العام 1920 م :
 

 

من خلال الجدول السابق يظهر بأنّ مدارس الشيعة لم تشكّل 3% من مجمل مدارس لبنان الطوائفية المذهبية، وتبيّن بأنّ النسبة الأكبر هي للمدارس المسيحية بما يقارب 90%، ويعود السبب في ذلك إلى تشجيع الإرساليات المسيحية لفتح هذه المدارس وترحيب السلطات الكنسية المحلية بهذا الأمر. وكنتيجة لهذا الواقع تأسّس عدد من الجمعيات الخيرية والأهلية الإسلامية كردّ فعل على هذا الغزو الثقافي، فشهدت الفترة الممتدّة ما بين الإنتداب والإستقلال بروز مدارس للمسلمين الشيعة لرفع الصوت وللمحافظة على ثقافتهم وموروثهم وعقائدهم الدينية، ولرفع مستوى هذه البيئة التي تم قهرها بشكل متعمّد عبر السلطات المختلفة المتعاقبة، فكان أهم هذه الجمعيات والمدارس:

 

  • مدارس الجمعية الخيرية العاملية الإسلامية 1923 م: تأسست هذه الجمعية في بيروت في العام 1923 م بهدف المساهمة في معالجة الواقع الاجتماعي والتربوي السيء لأبناء الطائفة الشيعية، ومع الاعتراف بالمذهب الجعفري في لبنان في العام 1926 م، بدأت الجمعية بإنشاء المدارس وأولها مدرسة للأطفال في منطقة رأس النبع في العام 1928 م، حيث بدأت الأعمال فيها قبل الحصول على الترخيص الرسمي للجمعية الذي صدر في العام 1929 م (إسكندر، 2005، صفحة 92)، حيث تسجل فيها في السنة الأولى ما يقارب 400 تلميذ (إسكندر، 2005، الصفحات 96-97)، وكان المغتربون من اهم مصادر دعم هذه الجمعية خاصةً بعدما لمسوا الإنجازات التربوية التي تقوم بها على صعيد الطائفة الشيعية، فقامت الجمعية بإنشاء عدد من المدارس في عدد من القرى، كما كانت تمنح المساعدات للمتعلمين المتفوقين، وتقوم بمساعدة الأيتام والفقراء لإتمام تحصيلهم العلمي. وطوّرت الجمعية مناهجها ذات التوجه الديني مع مراعاتها للمناهج التعليمية اللبنانية، وقامت بإحياء المناسبات الدينية خاصةً ذكرى عاشوراء، وجهزت الجمعية مدارسها بأحدث الوسائل التعليمية، وحققت نسب نجاح جيدة في الإمتحانات الرسمية للطلبة المنتسبين لها. وبالتالي يتّضح دور الجمعية العاملية خلال هذه الفترة في ردم الهوة التربوية في المجتمع الشيعي، وهي لا تزال تشارك في هذا الدور حتى اليوم على صعيد الطائفة والوطن.

  • مدارس الهدى 1935 م: أصدر رئيس الجمهورية عبر مرسوم في العام 1935 م للشيخ حبيب آل إبراهيم لفتح مدرسة في 9 قرى من قرى بعلبك دفعةً واحدة (المهاجر، 2010، صفحة 136)، حيث كان هدف الشيخ هو رفع الحرمان عن أهالي هذه القرى والمنطقة بشكل عام عبر إنشاء المدارس فيها. وقد تميز الشيخ في تجربته التربوية من خلال اعتماد المناهج التربوية المتطورة في هذه المدارس إضافةً للمناهج الدينية، فتوأم بين العلوم العصرية والعلوم الدينية، ولا يزال هناك حتى يومنا هذا مدرستين عامليتين في الحقل التربوي والتعليمي من هذه المدارس.

  • المدرسة الجعفرية 1938 م: تأسست المدرسة الجعفرية في مدينة صور على يد السيد عبد الحسين شرف الدين بالتعاون مع بعض وجهاء المدينة في العام 1938 م، فاعتبر تأسيسها واجبًا دينيًأ، حيث كان الهدف الأساسي لإنشائها هو محاربة الجهل والأميّة، ومواجهة المدارس ذات التوجه الأجنبي الموجودة في المدينة، حيث كان بعض أبناء الشيعة يلتحقون بها (جريدة لبنان الكبير الرسمية، 1938، صفحة 3049)، وقد اشتملت في البداية على 4 صفوف إبتدائية فقط، ثم في العام 1940 م تم إضافة الصف الخامس فأصبح بالإمكان تقدم تلامذتها للامتحانات الرسمية، وفي العام 1945 م أصبحت مدرسة متوسطة، ثم في العام 1948 م أصبحت ثانوية، وفي العام 1950 تم دعم مواردها من مغتربي الشيعة في أفريقيا وأنشىء لها مبنى كبير وأصبحت تدعى الكلية الجعفرية (رضا، 2013، صفحة 74)، وتم بناء مسجد مجاور لها لكي يؤدي المتعلمون صلاتهم فيه. وتألفت جمعية لإدارة شؤون الكلية الجعفرية تسمى جمعية الكلية الجعفرية في صور (مكي، 1982، صفحة 203)، ولا تزال مدرسة الكلية الجعفرية في مدينة صور عاملةً في الحقل التربوي التعليمي حتى يومنا هذا، وقد خرّجت العديد من المتعلمين في المجتمع الشيعي الجنوبي.

  • التربية والتعليم عند شيعة لبنان في الحقبة الملاصقة لما بعد مرحلة الإنتداب الفرنسي

 

تمحورت هذه الحقبة ما بعد فترة الإنتداب الفرنسي وجلاء آخر جندي اجنبي عن لبنان في العام 1943 م، حيث تميزت الفترة التي تليها بعودة السيد موسى الصدر إلى من إيران إلى لبنان في العام 1955 م، حيث بدأت تدب حركة التجديد مع عودته، وظهر ذلك من خلال القوانين التي نظمت اوضاع الطائفة الشيعية في لبنان، من ضمنها القانون رقم 72/67 الصادر في العام 1967 م وهو يتعلق بتنظيم شؤون طائفة المسلمين الشيعة في لبنان (فتوني، 2013، صفحة 113)، فأسس السيد الصدر في العام 1969 م المجلس الشيعي الأعلى، الذي نظم شؤون الطائفة، بالإضافة إلى إنشائه لعدد من المؤسسات التربوية والرعائية والاجتماعية و..إلخ، وبذلك يكون السيد موسى الصدر هو أول من سعى لوضع مدماك العمل المؤسساتي الحديث عند الطائفة الشيعية في لبنان.

 

بدأ النزوح الشيعي من جبل عامل والبقاع تجاه بيروت مع بدايات القرن العشرين نتيجة للظروف الاقتصادية والأمنية، ومع اندلاع الحرب الأهلية نزح العديد منهم إلى منطقة الضاحية الجنوبية لمدينة بيروت، فتحولت المنطقة إلى مركز لشتّى الخدمات الاجتماعية والتربوية، وفي مطلع الثمانينيات بدأت مرحلة التغيير الإستراتيجي والحقيقي لأوضاع الشيعة في لبنان، تحديدًا مع فترة انتصار الثورة الإسلامية في إيران من جهة، وانخراط الشيعة في مواجهة العدو الإسرائيلي من جهةٍ أخرى، فتم إنشاء عشرات المؤسسات الخدماتية والتربوية في أماكن انتشار الشيعة على كافة بقاع الوطن، مما ساهم بتدعيم وتقوية وجودهم وأعطاهم زخمًا للمضي قدمًا في المشاريع النهضوية التعليمية التربوية، وقد ساهم بشكل أساسي في هذه النهضة التربوية الأحزاب الشيعية الرئيسية حزب الله وحركة امل، وكذلك مساهمة عدد من الجمعيات والمؤسسات التربوية الشيعية كجمعية التعليم الديني الإسلامي، جمعية المبرات الخيرية، فضلاً عن المؤسسة الإسلامية للتربية والتعليم، ومؤسسات أمل التربوية، وعدد آخر من المؤسسات التربوية الشيعية المختلفة.

 

 


المقال ارتكز على أطروحة دكتوراة في التاريخ في الجامعة اللبنانية للطالبة فاطمة حمود 2019-2020 تحت عنوان:
التربية والتعليم في مدارس المصطفى دراسة في المنطلقات والتحولات الاجتماعية (1984-2016).


المراجع

  • جريدة لبنان الكبير الرسمية. (20 تشرين الأول, 1938). (3619).

  • أمجد إسكندر. (2005). أبجد هوز مدارس لبنان من تحت السنديانة إلى العلم (الإصدار لا ط). بيروت: منشورات رعيدي.

  • جعفر المهاجر. (2010). المهاجر العاملي، الشيخ حبيب آل إبراهيم، سيرته، اعماله، مؤلفاته، شعره (الإصدار 1). قم: مؤسسة تراث الشيعة.

  • حسان قبيسي. (1999). الدولة والتعليم في لبنان (الإصدار 1). بيروت: الهيئة اللبنانية للعلوم التربوية.

  • عباس رضا. (2013). تطور المؤسسات الشيعية في لبنان من البنية العائلية إلى البنية الطائفية. بيروت: الجامعة اللبنانية - أطروحة دكتوراه في العلوم الاجتماعية.

  • علي المقداد. (1999). لبنان من الطوائف إلى الطائف (الإصدار 1). بيروت: المركز العربي للأبحاث والتوثيق.

  • محسن الأمين. (2003). جبل عامل السيف والقلم (الإصدار 1). بيروت: دار الأمير.

  • محمد آل صفا. (1981). تاريخ جبل عامل (الإصدار 2). بيروت: دار النهار للنشر.

  • محمد تقي الفقيه. (1986). جبل عامل في التاريخ (الإصدار 2). بيروت: دار الأضواء.

  • محمد مكي. (1982). الحركة الفكرية والأدبية في جبل عامل (الإصدار 2). بيروت: دار الأندلس للطباعة والنشر.

  • مسعود ضاهر. (1974). تاريخ لبنان الاجتماعي 1914-1926 (الإصدار 1). بيروت: دار الفارابي.

  • مصطفى بزي. (1995). تطور التعليم والثقافة في جبل عامل. بيروت: هيئة غنماء المنطقة الحدودية.

  • نبيه فارس. (1961). دور لبنان في تاريخ الثقافة. مجلة الأبحاث، 13(2)، 261.

  • وجيه كوثراني. (1982). الإتجاهات الإجتماعية-السياسية في جبل عامل والمشرق العربي 1860-1920. بيروت: معهد الإنماء العربي.

  • archives diplomatiqyes francais serie E-Levant. (n.d.).

  • Rabbath, E. (1973). La formation historique du Liban politique et constitutionnel. Beyrouth.

أضيف بتاريخ :2023/03/13 - آخر تحديث : 2023/03/14 - عدد قراءات المقال : 1945