الى الاعلى
  • من كان له أنثى، فلم يبدها ولم يُهِنْها، ولم يُؤْثِّر ولده عليها أدخله الله الجنّة"النبي الأكرم(ص)"

محكات ومعايير تقويم وتحليل محتوى المنهج التربوي


 

إعداد: عباس كنعان

(المقالة الأولى)

 

   يسعى المنظرون في مجال إعداد وتطوير المناهج التربوية والتعليمية إلى وضع مجموعة من المحكات أو المعايير التي تساعدهم على تقييم وتقويم المنهج، بحيث يقومون بعملية تحليل دقيقة لمحتوى المنهج التربوي  بناءً على هذه المحكات أو المعايير، ولا شك بأنَّ هذه المحكات والمعايير تختلف ضيقًا وسعةً، وعمقًا وشدة، ونوعًا وكمًا، وتنوعًا وتحديدًا،... تبعًا للمنطلقات النظرية أو الفلسفة التربوية، أو وفقًا للتجربة التربوية التي يحملها كل من هؤلاء المختصون التربويون.


     ومع ملاحظة أنه لا يمكن للمنهج أن يتسع لكل المعارف والخبرات والمعلومات والكفايات والمجالات والساحات أو الميادين والأبعاد الحياتية للتربية المراد أيصال المتربين لتحقيق أهدافها، ولا معالجة كل القضايا التربوية والمعرفية والعلمية المطروحة،...إلخ، التي يهتم بها المتربون، أو المنظرون التربويون، أو مصممو ومهندسو المناهج التربوية؛ كان لا بد من وضع معايير ومحكات تقيمية وتقويمية للمناهج، وقد تنوعت وتعددت بتنوع اتجاهاتهم ومنطلقاتهم -الآنفة الذكر-، ومنها:

 

 

أ-محك أو معيار الصدق أو الصلاحية ((Criterion of Validity: 


حيث يتمثّل الصدق أو الصلاحية بمدى انطباق محتوى المنهج التربوي على الأهداف التربوية التي رسمت للمنهج ضمن مستوياتها المختلفة، ووفقًا للمراحل، والمجالات والميادين المختلفة داخل المنهج، فكلما كان المحتوى يحقق تلك الأهداف، كان للمنهج مستوى من الصدق والانطباق والصلاحية، فمثلاً إذا كانت أهداف المنهج التربوي تسعى إلى أن يكون المتربي مواكبًا لأحدث النظريات والنتائج العلمية في مجال من المجالات المعرفية، كان ينبغي للمحتوى أن يكون مواكبًا دائمًا لما يحدث على المستوى العلمي والمعرفي في هذا المجال، وكذلك لو كان المنهج يهدف إلى إدماج المتربين بالمجتمع الذي يعيشون فيه، كان ينبغي للمنهج التربوي أن يتضمن بمحتواه ما يمكن أن يساعد في تحقيق ذلك.

 

 

ب-محك ومعيار الأهمية (Criterion of Significance):


 تتسم الكثير من المناهج التربوية  أو التعليمية، أو التدريبية بالتوسع في المضامين التربوية والمعرفية والمعلومات والخبرات المراد إيصالها إلى المتربين، بل قد يكون منظرو المناهج ومهندسوها ومعدوها قد أربكهم الحجم الكبير من تلك المعارف والمعلومات  والخبرات التي بين أيديهم، والتي فرضها عليهم فلاسفة التربية أو الخبراء والمنظرون التربويون الذي أعدوا الإطار النظري للمنهج، كما يمكن أن تُشكل نتائج الدراسات التي أجريت على تقييم المناهج، والتوصيات المرفوعة من معديها والباحثين الخبراء القيمين عليها، عاملاً مساهمًا في تشكيل هذا المستوى من الضغط، ولا يمكن استبعاد تقييمات المربين الذين ينادون بترشيق المناهج، وإعادة التركيز على المضامين المحورية التي تنسجم مع الأهداف والغايات التربوية، فضلاً عمَّا يمكن أن يظهر من نتائج التقويم الذي يتم تحصيله من قبل المتربين أنفسهم، والذي ينادون بالتخفيف ما أمكن من محتوى المنهج ومضامينه التي ترهق كاهلهم، وتدفعهم بالمزيد من الجهود التي يعتبرون أنها خارج عن حاجاتهم، وتطلعاتهم، ورغباتهم، ولا تحاكي طموحاتهم، بل قد تؤدي إلى تقليص وتراجع في دافعيتهم التربوية والتعليمية والتدريبية، والتثقيفية،...إلخ، وهو ما قد يتجلّى في النتائج المحصلة في نهاية البرنامج أو العملية التربوية والتعليمية والتدريبية،..إلخ.


وفي هذا السياق، كان لا بد من الأخذ بمحكات ومعايير يمكن الاسترشاد بها، أو اللجوء إليها في تقييم وتقويم المنهج، تقويمًا رسميًا ، ومنها ما يمكن أن نسميه بمحك ومعيار الأهمية(Criterion of Significance)، والذي يمكن إجرائه وتحكيم محتوى المنهج بناءً عليه، لتحديد ما هو ذات الأهمية، والأكثر إلتصاقًا من المفاهيم والموضوعات، وموارد الكفايات التي يمكن أن تحققها لدى المتربين، وهو ما يساهم في ترشيق المنهج، وتركيزه، وإعادة توجيهه بما يمكن أن يحقق الأهداف، بمختلف مستوياتها ومجالاتها، والتي وضعت ورسومت له.


   وقد نأخذ بعين الاعتبار-كمهندسي المناهج ومعديها- أمرين مهمين في هذا الصدد، وهما: الاتساع، والعمق  ، أي مدى اتساع المنهج وشموله على مختلف الموضوعات التي يمكن أن تحقق الأهداف والكفايات، ومدى العمق والتركيز الذي يمكن أخذه كموجِّه في الكثير من الموارد التي تساهم في تصويب جهود مهندسي ومعدي المنهج.

 

 


ج-محك أو معيار اهتمامات واتجاهات المتربين(Criterion of learners' interests and trends)


   لا يمكن للمنظرين التربويين، أو مهندسو ومعدو المناهج، إغفال اهتمامات واتجاهات المستهدفين بالمنهج المعد نفسه، حيث أنهم هم المعنيون بشكل مباشر ولصيق بما يُقدم لهم، فهم المقصودون والمستهدفون، وما يحتويه المنهج، من كفايات وأهداف، ومعارف وخبرات، وأنشطة تتفرع عنها، تستهدفهم، ويُفترض بها أن تخاطب عقولهم، واتجاهاتهم، واهتماماتهم، وتحرّك دوافعهم باتجاه العملية التربوية والتعليمية التعلُّمية، أو التدريبية والتثقيفية، وهذا أمر مهم جدًا، وحيوي، لا بد من الإلتفات إليه، حيث يُواجه الكثير من المؤسسات التربوية والتعليمية -على حدد مخصوص- إنكفاء أو تراجع دافعية المتربين، أو المتعلمين، أو المشاركين في البرامج التدريبية والتثقيفية.

 


لكن في هذا المجال تواجه مهندسي ومعدي المناهج تحديات عديدة أبرزها:

 

  • تعدد وتنوّع اتجاهات اهتمامات المتربين: حيث ينبغي لمهندسي المناهج ومعديها الاستفادة من الدراسات العلمية، والتقييمات الدقيقية التي ترصد الاهتمامات الأكثر أولوية، وذات المنحى المشترك، لا الفردي.

  • تبدل هذه الاتجاهات والاهتمامات، وسرعة تقلُّبها: فلا بد من رصد ما هو أكثر ثباتًا، وأكثر قدرة على محاكاته، وأخذه بعين الاعتبار من اهتماماتهم، واتجاهاتهم، وأكثر إلتصاقًا بالأهداف المرسومة، في المنهج، والمتلائمة مع الإطار النظري التي انطلقت منه، وشكّل حاكمًا نظريًا على المنهج.

  • التشويه الحاصل على مستوى المزاج العام لاهتمامات واتجاهات وآراء المتربين: أي أن الإعلام الحالي بما يتضمنه من مفردات ترويجية مؤثرة في الاتجاهات والرأي العام والثقافة السائدة، وما دخل من خلال الغزو والحروب الثقافية، والموجات العقدية التي تتكاثر حاليًا في ظل ما حكمت به العولمة، والتقنيات الإلكترونية على مستوى الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، والميديا، وما حوته السينما ونتاجاتها الهائلة، وبمختلف مستوياتها وأنواعها، شوهت وغيّرت الكثير من الأفكار والآراء والأمزجة، وعدّلت أذهان ونفوسهم وتفضيلاتهم، واهتماماتهم، مما يحتم علينا –كتربويين-الإلتفات إلى المدى والمستوى الذي يمكن الأخذ به على هذا الصعيد، حيث يستدعي ذلك تحديد الدائرة التي يمكن الأخذ بها، وما لا يمكن الأخذ به على هذا الصعيد أو ذاك.

 

د-محك أو معيار قابلية محتوى المنهج للاكتساب من قبل المتربين (Criterion of learnability):


في الكثير من الأحيان ينشغل مصممو المناهج ومهندسوها بتقديم ما يلزم من موضوعات معرفية  ومعلومات وخبرات وكفايات تحقق الأهداف التربوية التي احتواها المنهج، وقد يغفلون عن تحديد مستوى قدرة أو قابلية هذا المحتوى للاكتساب أو التعلم، أو التربي، أو التدرب، أو التثقّف،..إلخ، وهو ما يستدعي الإلتفات إلى قياس مدى قدرة المتربين على تلقي ما احتواه المنهج، وهذا ما يطرح مجموعة من الأسئلة كالتالية: إلى أي مدى تتلاءم محتويات المنهج مع مستوى قدرات المتربين من الناحية العقلية أو النفسية، أو الأدائية الحركية والحسية والجسمية،...إلخ، في كل مرحلة من المراحل العمرية والنمائية للمتربين؟ هل هناك مفاهيم  وموضوعات لا تشكل أداءً تعلميًا وتربويًا فعالاً ونافعًا لدى المتربين؟ وهل يمكن أن يتم تأجيل هذه المحتويات إلى مراحل أخرى لكي تصبح أكثر فعالية وأكثر تأثيرًا وبشكلٍ أسرع، وأقل جهدًا وصعوبة من قبل المتربين؟

 


هـ-محك أو معيار الفائدة والثمرة أو المنفعة (Criterion of Utility):


 من الجوانب التي لا بد من قياسها وتحديد معدلات وجودها، ومستوى مقاربتها في المنهج التربوي، هي قياس مدى الفائدة والثمرة والمنفعة الحياتية للمتربين، أي قياس مدى ارتباط محتوى المنهج بالقضايا الحياتية الخاصة للمتربين، والتي تحيط بهم، فإذا كانت التربية هي عملية تنشئة وتوفير الظروف الملائمة لدمج المتربين بمعترك الحياة، وشؤونها المتعددة، وقضاياها الجارية والمعاصرة والمحيطة بالمتربين، فكل المعارف والمعطيات والخبرات والمعلومات والاتجاهات والمهارات التي يحتويها المنهج لا بد وأن تحاكي حياة المتربين بشكل مباشر، وهذا ما يتكامل مع التخصصات المطلوبة على مستوى سوق العمل، والاحتياجات الناشئة من مسارات والسياقات المعيشية للمجتمع بكل تحدياته الراهنة والمستقبلية، فضلاً عما يمكن للفائدة أن تشمل البعد الأخروي للإنسان وهدفه الأكمل وهو كماله وتحقيق سعادته وقربه من الله تعالى.
هناك معايير  ومحكات أخرى لتقويم وتحليل المناهج التربوية وتطويرها، سنتناولها تباعًا في مقالتنا التالية.

 

 


المراجع : 

  1.   للمزيد من التوسع في مسألة تحليل محتوى المنهج، راجع: تحليل محتوى المنهج في العلوم الإنسانية، دكتور وائل عبدالله محمد، والدكتورة ريم أحمد عبد العظيم، دار المسيرة، الأردن، ت.ط2012، ص15 وما بعدها.

  2.  التقويم الرسمي مقابل التقويم غير الرسمي، راجع: المناهج التعليمية (تصميمها، تنفيذها، تقويمها، تطويرها)، الدكتور وليد خضر الزند، والدكتور هاني حتمل عبيدات، دار عالم الكتاب الحديث، الأردن، ت.ط2010، ص338.

  3.   سعادة، جودت أحمد، و إبراهيم، عبدالله محمد، المنهج المدرسي المعاصر، دار الفكر، م.س، ص257 وما بعدها.

  4.  للمزيد من التوسع في مسألة تحليل محتوى المنهج، راجع: تحليل محتوى المنهج في العلوم الإنسانية، دكتور وائل عبدالله محمد، والدكتورة ريم أحمد عبد العظيم، دار المسيرة، الأردن، ت.ط2012، ص15 وما بعدها.

  5.  التقويم الرسمي مقابل التقويم غير الرسمي، راجع: المناهج التعليمية (تصميمها، تنفيذها، تقويمها، تطويرها)، الدكتور وليد خضر الزند، والدكتور هاني حتمل عبيدات، دار عالم الكتاب الحديث، الأردن، ت.ط2010، ص338.

  6.  سعادة، جودت أحمد، و إبراهيم، عبدالله محمد، المنهج المدرسي المعاصر، دار الفكر، م.س، ص257 وما بعدها.

أضيف بتاريخ :2023/02/17 - آخر تحديث : 2023/03/04 - عدد قراءات المقال : 2932