الى الاعلى
  • العلم أصل كل خير، الجهل أصل كل شر " الإمام علي (ع)"

الغربلة وصناعة الانسان الرسالي –كربلاء نموذجًا-


الغربلة وصناعة الانسان الرسالي

–كربلاء نموذجًا-

الشيخ د. محمد النمر*

    من الأمور المهمة التي تواجهها الأمة المؤمنة عبر التاريخ هو موضوع الإمتحان والإختبار الإلهي لها، عبر الغربلة والتمحيص والفتنة والإبتلاء، من أجل صناعة أمة مبصرة وواعية وقادرة على تحمل العبء الرسالي الموكل إلى الولي وأصحابه، فلا يمكن ترك الولي لوحده يتحمل العبء الرسالي.
وباعتبارنا أمة إمام آخر الزمان ، فنحن لا نخرج عن هذه القاعدة والسنة وهي التمحيص والابتلاء من أجل أن نكون جديرين بكوننا من أصحابه وأعوانه عجل الله تعالى فرجه الشريف. ففي الرواية: "...قلت : جعلت فداك كم مع القائم من العرب ؟ قال الصادق (ع) : نفر يسير، قلت : والله إن من يصف هذا الامر منهم لكثير، قال : لا بد للناس من أن يمحصوا ويميزوا ويغربلوا ويستخرج في الغربال خلق كثير " (1) .

 
  وبما أن التمحيص والابتلاء والغربلة بلغت أوجّها في كربلاء سنة 60 للهجرة مع الحسين ع وأصحابه، فيمكننا اعتبار عاشوراء نموذجًا يمكن الإنطلاق منه من أجل التربية على النجاح في الاختبار الالهي  والتمحيص والغربلة، ومن أجل صناعة الانسان الرسالي البصير القادر على مواجهة التحديات والصعوبات، والقادر على المضي قدما في حركة التمهيد لصاحب العصر والزمان.  


وقد بدأ الامام الحسين (ع) حركته بإخبار أصحابه ومن معه بهدفه والخطوات التي سيقوم بها وأخبرهم أيضا بنتائج هذه الحركة، فالحسين (ع) في ثورته الرسالية من أجل الإصلاح في أمة جده (ص) لم يستخدم طريق الكذب والخداع مع أصحابه وأهل بيته ومن حوله من الناس، فلم يخبرهم أن النصر محسوم وأن نتيجة حركته سيكون هو استلام الحكم، فترك للناس  حرية الاختيار في اللحاق بركبه وثورته مهما كانت النتائج أو تركه والفرار من القتال والشهادة أو السبي، من أجل غربلة الناس واختيار الاصحاب الجديرين بتحمل عبء هذه الحركة الإصلاحية ويشهد لذلك أمور:

 

  1. بداية التحرك من المدينة إلى مكة :  تحرك الركب الحسيني إلى مكة، سالكاً الطريق الأعظم من دون أن يتنكّب عن الطريق، أو يسلك الطرق الفرعية في تحدٍ واضح للسلطة الأموية(2) . بينما من رفض بيعة يزيد سلك طرقا فرعية بشكل سري، مما شكل بداية لغربلة الناس الرافضين لحكم يزيد بين من يريد الاصلاح وبقاء الاسلام وبين من يريد مصالحه الشخصية.

  2. التحرك من مكة إلى الكوفة: حيث خرج يوم التروية في الثامن من ذي الحجة قبل يوم عرفة وقد ترك الحج والناس وتوجه نحو الكوفة ولم يتحرك معه الا نفر قليل، لأن الناس عندما أُلقيت عليهم الحجة بأن الحسين ع سيثور وأنه سيقاتل وطريقه طريق الشهادة لم يتحركوا معه ومع أهدافه الرسالية، مع أنه أوضح ذلك في مكة أكثر من مرة لكثير من الناس(3) .

  3. في كربلاء : بدأت الغربلة النهائية لأصحاب الحسين ع وأهل بيته فعُرض الأمان على بعض أهل بيته كأبي الفضل العباس ع وأخوته، وعُرض الأمان على بعض أصحابه، وفرّ بعض من تبعه من كربلاء عندما علم بحتمية المعركة بينما ثبت من بقي من أهل بيته وأصحابه على موقفهم.

 

ومن ثم كانت غربلته لأصحابه ع ليلة العاشر من محرم :"ألا وإني أظن يومنا من هؤلاء الأعداء غدا، ألا وإني قد رأيت لكم، فانطلقوا جميعًا في حل،ليس عليكم مني ذمام، هذا ليل قد غشيكم فاتخذوه جملا(4)


وبما أن البقاء مع الحسين يوم العاشر يعني الشهادة والوصول إلى شرف المشاركة مع الولي (ع) في إحياء الدين وإبقاء الاسلام لذلك لم يكن يقبل الحسين (ع) أن يكون في أصحابه من كان عليه دين أو حق للناس، من أجل أن يبقى الأصحاب الخلّص الذين لا يمكن لأحد أن يأخذ عليهم مأخذاً : قال ابن ابي عمير : أمر الحُسَيْنُ مُناديا ، فَنَادَى : " لا يقبل مَعَنَا رَجُل عَليه دَيْن (5) " . 


لذلك من أراد أن يبلغ الفتح مع الامام الحسين (ع) يجب أن تكون لديه مواصفات معينة وخصائص تميزه عن باقي الناس حتى يكون بقاء الاسلام وروحه وتعاليمه ورفض الظلم والحرية من نتائج شهادته مع الحسين (ع).


من هنا يجب تربية الجماعة المؤمنة التي تريد أن تكون رسالية وممهدة لحركة الظهور المبارك على تحمل المصائب والابتلاءات والصبر أمام الامتحانات والغربلة التي تصيبها ليبقى الخلّص من هذه الجماعة الذين سيكون لهم شرف تأدية الرسالة وحفظ الدين والتمهيد وهذا القانون – التمحيص والغربلة- يشمل جميع المؤمنين ولا يوجد فيه استثناءات وهو من عوامل النصر الالهي : "أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ" سورة البقرة - الآية 214" فالزلزلة هي آخر المراحل قبل النصر الالهي وفيها يغربل الناس.


وفي الختام نذكر بعضاً من آثار معرفة الغربلة في تربية المؤمن الرسالي:

  1. زيادة الوعي والبصيرة لديه وفهمه للسنن الالهية.

  2. معرفة أن الابتلاءات والمصائب هي مرحلة حتمية من أجل النصر الالهي والفتح.

  3. التربية على الزهد في الدنيا وتحمل الشدائد في سبيل الرسالة.

  4. تعزيز قيمة الصبر والتحمل وعدم اليأس.

  5. معرفة أن التضحية والشهادة قد يكونان مطلوبان في سبيل الرسالة.

  6. طاعة الولي المعصوم واتباع خطواته وآثاره والاقتداء به في مواجهة المصاعب والمشكلات.

  7. معرفة العالم المضحي والمجاهد والذي يسير على خطى الانبياء والأئمة عليهم السلام والذي يمكن اتباعه،  فليس كل من يدّعي العلم يمكن أن يتبع يقول الامام العسكري (ع) :" فأما من كان من الفقهاء صائنا لنفسه، حافظا لدينه ... فللعوام أن يقلدوه وذلك لا يكون إلا لبعض فقهاء الشيعة لا كلهم(6)

  8. التمسك بالاسلام المحمدي الأصيل الذي أعاد الامام الخميني احياءه في هذا العصر، والذي يستمد مواقفه وتعاليمه و كيفية مواجهته للظلم وللاستكبار من كربلاء ومدرسة عاشوراء.


المراجع :

  1. الكافي - الشيخ الكليني - ج ١ - الصفحة ٣٧٠
  2. تاريخ الطبري، 6/182
  3. راجع كتاب النهضة الحسينية ،اصدار جمعية المعارف https://ashouraa.almaaref.org/maqalet/alnahda_alhuseynya.htm
  4. موسوعة كلمات الإمام الحسين (ع) - لجنة الحديث في معهد باقر العلوم (ع) - الصفحة ٤٧٩
  5. موسوعة كلمات الإمام الحسين (ع) - لجنة الحديث في معهد باقر العلوم (ع) - الصفحة ٨٦١
  6. وسائل الشيعة ج 27  ص 131.

 


*الشيخ الدكتور محمد النمر : دكتوراه في المناهج التربوية، باحث في مركز الأبحاث والدراسات التربوية ESRC  في بيروت.

أضيف بتاريخ :2021/08/16 - آخر تحديث : 2022/11/22 - عدد قراءات المقال : 3498

الكلمات المفتاحية : كربلاء انسان الرسالي