الى الاعلى
  • إذا قعد أحدكم في منزله فليُرخِ عليه ستره، فإنّ الله تعالى قسم الحياء كما قسم الرزق"النبي عيسى(ع)"

التحديات التي واجهت عملية التأسيس لبناء فلسفة التربية الإسلامية الأصيلة


 

التحديات التي واجهت عملية التأسيس

لبناء فلسفة التربية الإسلامية الأصيلة

إعداد: عباس كنعان*

لقد واجهت عملية التأسيس لبناء فلسفة التربية الإسلامية مجموعة من التحديات أبرزها:

 

الإشكالية الاجتهادية: بعد إجراء دراسة عامة للمسار التاريخي للفكر الإسلامي يتبيّن لنا أنّ هناك أربع محطات رئيسة:

 

  • المحطة الأولى: عصر النص، حيث امتد من تاريخ بداية الدعوة النبويّة للنبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، أي عصر الوحي، فتجلَّى ذلك بنحوين:

  1. الأوّل الآيات القرآنية التي أنزلها الله تبارك وتعالى على رسول الله محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وألقاها على مسامع أصحابه، حيث حرص رسول الله محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ، على حفظها وشرح مقاصدها، وكذلك كانت موردًا لإفهام أبناء عصره وقوام مجتمعه بالحجج، والبيان وقوة متانته، وإنبائه عن الغيبيات، وقصص الماضين من الأمم التي خلت، ومصدرًا لاستلهام العقيدة، والإيمان الحقيقي، والمعرفة الدينية الحقة.

  2.  والنحو الثاني الروايات والأحاديث التي نطق بها رسول الله محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، والتي يمكن التعدي بها إلى فعل وتقرير النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، كونه المعصوم الذي لا يقوم إلا بما يتلاءم مع مقتضى عصمته، حيث لم يكن في هذه المرحلة من مسار اجتهادي سوى استنطاق الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) عن مقاصد هذه الآيات والرويات والمواقف المختلفة، علمًا أن هناك فرق بين الاجتهاد على المستوى القضايا العقائدية، والاجتهاد على مستوى القضايا الفقهية، حيث أنّ الأول قد بدأ من بدايات الدعوة، وبدى ظاهرًا فيما بعد بالمدارس العقائدية الثلاث(المعتزلة، الأشعرية، والإثني عشرية) بينما الثاني(الاجتهاد الفقهي) تأخر إلى مرحلة أخرى .
     

  • المحطة الثانية: والتي بدأت بعد رحيل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، حيث ذهبت الإمامية إلى الاقتداء بالأئمة الإثنى عشر (عليهم السلام)، ولم يكن للاجتهاد دورًا بارزًا عندهم في ظل وجود المعصوم الذي يتولى بيان القضايا العقائدية والأحكام وقواعد الإسلام وتطبيقاتها العملية في مختلف الموارد، بينما ذهب أهل السنة إلى مسألة الاجتهاد الفقهي في فهم الأحكام وتفسير مقاصد النص الديني، وقد اتخذت مدارس عديدة من القياس والاستحسان في الموارد التي لا يوجد نص عليها، فقد نشأت المدارس الأربعة (الحنبلية، الشافعية، الحنفية، والمالكية)، أما في الجانب العقائدي فقد استكملت الشيعة الإثني عشرية مرجعيتها للإمام المعصوم، بينما أخذت المدارس السنية تفترق في الإلتحاق بالفرقتين الكلاميتين(الأشعرية والمعتزلة).

  • المحطة الثالثة: لقد استكملت المرحلة السابقة مع تعديلات اجتهادية من فترة زمنية إلى أخرى، إلى أن بدأت محطة جديدة في الساحة الإسلامية، تجلت في مرحلة غياب جزئي للإمام الثاني عشر لدى الشيعة، وهو الإمام المهدي(عج)، حيث بدأت في العام 260 للهجرة والتي كانت مرحلة تمهيدية للغياب التام للمعصوم، حيث كان الشيعة يرجعون إلى الإمام المعصوم عبر سفرائه الأربعة، وكانوا هؤلاء السفراء بمثابة رواة الأحاديث وناقلي الأحكام من الإمام الغائب إلى شيعته، وإن كان هناك من اجتهاد لدى هؤلاء السفراء فهو مُمضى من قبل الإمام المهدي(عج) نفسه، وقد استمرت هذه المرحلة ما يقارب السبعين عامًا كمرحلة تمرينية، للمحطة اللاحقة.

  • المحطة الرابعة: وقد بدأت بعد غياب الإمام المهدي (عج) في غيبيته الكبرى، حيث بدأ الاجتهاد الشيعي الواسع بالظهور مع مدوّني الأحاديث كالشيخ المفيد والشيخ الصدوق، والكليني، وغيرهم، ممن صنفوا الروايات وفق باب الفتاوى والأحكام التي استظهروها منها، ولم يكن هذه الاجتهاد على شاكلة الاجتهاد الذي بدأ عند أهل السنة، حيث كان لديهم على نحو الاجتهاد بالرأي بالاستحسان والقياس وغيره من الأدلة في حال لم يكن هناك من نص يمكن الاستناد إليه، في حين أن الاجتهاد لدى الشيعة كان اجتهادًا في فهم النص واستنباط الحكم من مظانه وفق القواعد والأصول الشرعية، وقد استمرت هذه المحطة إلى عصرنا الراهن- مع تمايزٍ في مستوى الاجتهاد بين فقيهٍ وآخر- إلا أنّ الحراك الفكري الإسلامي لدى الشيعة لا يزال ناشطًا بناءً على مبدأ مواكبة الزمان والمكان، ومدى تجدد حركة ودلالة النص الديني على مواكبة الحوادث الواقعة.
     

        وهذه المحطات وإن كان البارز فيها الجانب الفقهي، إلا أن التدقيق يكشف لنا شموله لجوانب أخرى كتفسير القرآن، والقضايا الكلامية والعقائدية، والسياسية، والاجتماعية التي يمكن استظهارها من أدلتها الشرعية الإسلامية، هذا من جهة، ومن جهة أخرى يمكن أن نعتبر أن الظروف الاجتماعية والأمنيّة والسياسية التي تحيط بالفقهاء كانت تؤثر في المسار والموضوعات الاجتهادية لديهم، وما يمكن إدراجه ضمن هذا السياق مسألة التقيّة، وهو ما يبرر أيضًا عدم وضوح أو بيان تطرقهم إلى الكثير من القضايا التي نحتاجها اليوم، كالموضوعات التربوية، والإدارية، والاقتصادية، والسياسية،... التي وجدت لها بيئتها الحالية مكانًا مناسبًا للبحث والاجتهاد، وهو ما استدعى الآن من الفقهاء إعادة النظر في الكثير من الأبواب الاجتهادية، التخصصية، وفرضت على الحوزات والمؤسسات العلمية الدينية نوعًا من الإلحاح في إيجاد الأرضية المناسبة للاجتهاد في هذه الأبواب، وهو ما يقودنا إلى إعادة طرح قضية التأصيل الإسلامي على مستوى التربية، وقضاياها ومسائلها وتفريعاتها، ليس من خلفية فقهية فحسب، بل من خلفيّة فكريّة إسلامية شاملة، تتضمّن طرح الفكر والنظرية والمنهج الإسلامي في هذا المجال، وإعادة النظر بالقضايا والنظريات التربوية غير الإسلامية المطروحة، وذلك بناءً على خلفية إسلامية تدرك الأسس والمباني والأصول والمبادئ الإسلامية الأصيلة. كما أن المنحى العلمي الخاص في تناول القضايا الفقهية ذات البعد الفردي، وغلبة المنحى المعارض في مسارهم السياسي، إذ أنهم بقوا في صفوف المعارضة، ولم يتولوا مناصب قيادية في الدولة جعلهم بعيدين عن تناول بحثهم القضايا ذات الابتلاء العام .

 

انطلاقًا من هذا الواقع، والنظرة المعرفية للفلسفة الإسلامية للتربية، وجدت مجموعة من التحولات طريقًا لها في ظل الكثير من تلك الظروف الضاغطة والحاكمة، وفي الوقت الذي لا يمكننا إنكار التربية الإسلامية التي حافظت على تراثها، ودورها من خلال انتاجها لنخبة كبيرة من العلماء الأعلام والقيادات الاجتماعية والسياسية، التي أثرت في التاريخ البشري، على المستوى الفلسفي والفكري، والكثير من العلوم الطبيعية كالطب والهندسة، والفلك، والفيزياء، ...وغيرها، إلا أنّ هذه التربية لم توثّق، بالشكل الخاص، ولم تقيّد بالنحو الذي يمكننا أن نعتبر ذلك مرجعًا يمكن الاستناد إليه في هذا المضمار، وخاصة مع تطور النظريات والأنظمة التربوية الحديثة في الغرب، فقد نشأ نوع من حالة الفصام في الواقع الإسلامي، بين التربية الوافدة والمبتناة على فلسفات ليست إسلامية، وبين الكثير من التعاليم والأحكام الإسلامية التي تعارض تلك التربية، وقد انعكس ذلك في الكثير من الوقائع التربوية والاجتماعية، حيث يُعزى الكثير من الأسباب التي أدت إلى تراجع المجتمعات الإسلامية إلى الخلل في البناء التربوي، وهو ما استدعى وجود عملية بناء لفسلفة تربوية إسلامية أصيلة، تعمل على إجراء تحوّل في الواقع المتخلف للعالم الإسلامي، وتدفعه إلى إعادة الانتاج والإبداع في الكثير من الميادين والساحات الحياتية، إلا أن انتاج أو كتابة فلسفة التربية الإسلامية يواجه مجموعة من العقبات لا بد من ذكر أبرزها:

  • إن فلسفة التربية الإسلامية تحتاج إلى الفلسفة الإسلامية العامة للبناء والارتكاز عليها، حيث تشكّل مدخلاً ضروريًا لا يمكن إغفاله، وبالتالي فإنّه ما لم يكن هناك حسم للكثير من القضايا الفلسفية، وتحديد الموقف المتبنَّى إزاءها، فإنّ البحث حول الفلسفة التربوية سيكون قاصرًا.
  • أن تدوين فلسفة التربية تحتاج إلى فتح باب الاجتهاد على حقول وفضاءات معرفية جديدة، خاصة في المؤسسة الدينية الأولى وهي الحوزة، وعدم الاكتفاء بالاجتهاد بالأبواب المعرفية المعتادة كالفقه والأصول، بل لا بد من الاجتهاد في الأبواب الخاصة بالتربية، وهو أمر لم يظهر جليًا ومكتملاً حتى الآن، خاصة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار الاجتهاد بمعناه الاستنباطي الذي يأخذ بعين الاعتبار المتغيرات الزمنية والمكانية للموضوعات المختلفة.
  • الحاجة إلى تحديد المنهجية التي ستُعتمد في بناء أو تدوين الفلسفة التربوية الإسلامية، حيث أنّ المنهجية الأصولية والفقهية هي المنهجية الطاغية حاليًا في قراءة النص الديني الإسلامي، مع ملاحظة الإستدلال العقلي إلى جانب النقلي في الكثير من القضايا والمفاهيم الإسلامية، خاصة لدى المدرسة الإمامية، مما يعني أن تحديد منهجية الفلسفة التربوية سابقة حكمًا عن البحث في موضوعات وقضايا الفلسفة التربوية نفسها، وضرورة لا بد منها.
  • طغيان المقاربات الغربية للقضايا التربوية، مما سيجعل أي تحوّل في هذا المجال تغييرًا صعبًا وشاقًا سيحمل الكثير من المواجهة والمجابهة، إن على مستوى الواقع الإسلامي الداخلي، أو على مستوى الخارجي المقابل للفكر الإسلامي.
  • الافتقار إلى المفكرين والعلماء المسلمين الذين يحملونا الفكر التربوي بعمقه، ولديهم الخلفية المعرفية الإسلامية من منابعها الأصيلة، وهو ما يحتاج إلى جهود كبيرة في هذا السياق.
  • الاحتياج الملح لحل الكثير من القضايا التربوية التي تفرض نفسها حاليًا، في حين أن عملية التأصيل الفكري والفلسفي، تدرس الجوانب المدركية للحل، وليس آليات الحل بشكل مباشر، أي أن هذا الأمر مع ضرورته لا يمكن الركون إليه قبل تشييد تلك المداميك الفلسفية والمعرفية العميقة، مما سيولّد حالة من نكران مسألة فلسفة التربية.
  • إنّ طرح عملية تأصيل للتربية هو بمضمونه نوع من هدم ما هو سائد(ولو على النحو الجزئي)، أي أنه سيستدعي نوع من المواجهة المعرفية والفكرية بالحد الأدنى، مما يحتمل دخول ذلك في الاطار السياسي، وبالتالي فإنّ التحول بهذا المستوى يحتاج إلى احتضان من قبل سلطة أو جهة لها القوة في حماية هذه الجهود والنتاجات البنيوية التغيرية.

 

في سياق القراءة التاريخية لكل ما تقدم، وملاحظة الظروف الراهنة يمكننا القول بأن هناك محطة جديدة بدأت مع انتصار الثورة الإسلامية في إيران، بقيادة الإمام الخميني(قدس سره) حيث كانت 
أولى ركازها قيام دستور دولة قائمة على مقاربة تأصيلية إسلامية، تستند إلى القرآن الكريم، وسنة رسول الله (صلى الله عليه وآهل وسلم) والأئمة المعصومين(عليهم السلام) والسيرة العقلائية الممضاة من المعصوم (عليه السلام)، وتنهل من تراث فلسفي وفكري وثقافي عميق، يستند إلى المباني النظرية الإسلامية المحكمة، ويعالج القضايا المعاصرة، بكل جوانبها، ومن ضمنها الفلسفة والقضايا التربوية، حيث يمكن أن نلحظ ذلك-وإن بدا في مراحله الأولى-مع إطلاق المباني النظرية للتحول البنيوي في نظام الجمهورية الإسلامية في إيران - بعد الدفع والتوجيه والمواكبة التي حظيت به من قبل سماحة الإمام الخامنئي(حفظه الله)- حيث تمهد لوثيقة تربوية إسلامية تأصيلية تلحظ الأبعاد الإنسانية كافة، وتحدد المنحى العام للفلسفة التربوية الإسلامية التأصيلية، ومرتكزاتها البنائية والتأسيسية، ومفاهيهما، وعناصرها الأساسية.

 

 

لتنزيل المقالة مع المصادر و المراجع إضغط هنا


*الشيخ الدكتور عباس كنعان مدير مديرية تطوير المناهج في مركز الأبحاث والدراسات التربوية 
 

أضيف بتاريخ :2020/09/15 - آخر تحديث : 2022/11/22 - عدد قراءات المقال : 1172