الى الاعلى
  • إذا قعد أحدكم في منزله فليُرخِ عليه ستره، فإنّ الله تعالى قسم الحياء كما قسم الرزق"النبي عيسى(ع)"

مقاربات في تأصيل التربية الإسلامية


 
مقاربات في تأصيل التربية الإسلامية
 
الكاتب : الشيخ الدكتور عباس كنعان،
 مدير مديرية تطوير المناهج في مركز الأبحاث والدراسات التربوية 
 
  يطرح الدين الإسلامي مقاربة معرفية حول الإنسان، تستند إلى الأصول المعرفية والعقدية للدين، وتسعى لصياغة رؤية محددة تساهم في تشييد قواعد وأسس ومبادئ خاصة به، ولمـّا كانت هناك مذاهب ومدارس متعددة في الفكر البشري؛ سعى الدين الإسلامي ليقدم أطروحته في تفسير الكون والخالق والإنسان والحياة والموت، وعلاقة الإنسان بكل ذلك...إلخ، وطبيعة العلاقة بين المخلوق والخالق، وقد تشترك معه في ذلك العديد من الديانات، وبالتالي فإنّ لدى الدين الإسلامي تفسيرًا أو مقاربة محددة بكل مجال من مجالات العلوم الإنسانية، تتلاءم مع تلك المقدمات العقدية والمعرفية لديه، بل لا يمكن فصلها عنها، ووفق نسق من المفاهيم والمرتكزات والقواعد الخاصة به، إلا أن ذلك يدعو إلى طرح مجموعة من الأسئلة التي تتبادر إلى الذهن في هذا المقام:
 
-ما هي المرتكزات المعرفية التي يتميز بها الدين الإسلامي عن غيره حينما نريد التأسيس لفلسفة إسلامية حول الإنسان؟
-إلى أي مدى تتحلّى هذه المرتكزات ببعدها الأصولي؟ أي هل تستند -عند تقديم نفسها- إلى أدلة محكمة البنيان، دينية كانت، أو معتبرة دينيًا ؟
-إلى أي مدى تتقاطع أو تفترق الفلسلفة الإسلامية للإنسان وعلاقته بالكون والخالق ونفسه عن الفلسفات الأخرى؟ وهل لديها جوانب معرفية تتناقض مع غيرها من الفلسفات الأخرى في عملية التأسيس؟
-كيف يمكن لهذه الفلسفة(الإسلامية) أن تتعامل مع الناتج العلمي الإنساني، والتراث المعرفي والنظريات المعرفية المتعددة والمتراكمة على مدى الأزمنة المتعاقبة والسابقة؟
-هل يمكن أن تقدم الفلسفة الإسلامية طرحًا جديدًا على مستوى صناعة الإنسان وحياته، بما يساهم في حل الكثير من العقبات التي تواجه تربية الإنسان في عالمنا المعاصر؟ أو التي تساعد في حل بعض من المشكلات التي تواجه الواقع الاجتماعي؟
 
وغيرها من الأسئلة التي تبرّر الحاجة لوجود عملية تأصيل إسلامية. إلا أن هذه المقاربة تختلف أيضًا بين المذاهب والمكونات الإسلامية، حيث يسعى كلٌ منها إلى تقديم رؤيته الفلسفية والمعرفية الخاصة، استنادًا إلى مرتكزات تأسيسية، أي هناك تعددية في تلك الرؤى، وقد نتجت هذه التعدديدة عن عدة عوامل، منها:
 
-تعددية المقاربات العقائدية للكثير من القضايا الكلامية . 
-تعددية المشارب المعرفية لديها، وطبيعة الاجتهاد في فهم النص الديني، وكيفية مقاربة ذلك على المستوى الفقهي والأخلاقي.
-تعددية الموقف من التراث والنص الديني وسعته أو ضيقه، ومدى حجية النص المنقول في الإسناد والدلالة.
- تعددية الموقف المعرفي والمنهجي من تحديد "ما هو دور العقل في تكوين المعرفة لدى الإنسان المسلم؟".
 
وماذا لو قاربنا الأمر في العلاقة بين تلك الرؤى والسلطة، التي يمكنها أن تقوم بالتضييق أو استبعاد هذا الدين أو ذاك، أو هذا المذهب أو ذاك، أو هذه القراءة للدين أو تلك، أو تفسح المجال أمامه للتقدم وإرساء قِواه، أو تقوم بتشويه وتزييف ما توصل إليه هذا المذهب أو ذاك، إلخ...؛ كل ذلك يدعو إلى إعادة النظر في الكثير من المرتكزات المعرفية التي لا بد للعلوم الإنسانية وخاصة العلوم التربوية من الاستناد إليها، وقد نشأت هنا ثلاثة اتجاهات في مجال الفلسفة الإسلامية للعلوم الإنسانية، نذكرها وفق التالي:
 
الاتجاهات المتعددة في مقاربة الفلسفة الإسلامية للعلوم الإنسانية:
 
-الاتجاه الأول: وهو الاتجاه الذي يدعو إلى الإعراض عن الفلسفة والعرفان والاكتفاء بالنصوص الدينية الإسلامية، وذلك في سبيل تحديد الأفكار الإسلامية الأساسية في مجال التربية والتعليم، حيث ينطلق هذا الاتجاه من خلفية أنّ الفلسفة والعرفان يختلفان فيما بينهما من جهة، فكل منهما يقدم تفسيرات تتلاءم مع منهجه المعرفي الذي يختلف عن الآخر، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنَّ التباين والاختلاف حاصل بين النصوص الدينية من جهة وبين العرفان والفلسفة من جهة أخرى، إذ أن الموروث الغربي لكلٍ من الفلسفة والعرفان(خاصة العرفان النظري) يحمل في طياته ما تناقله المترجمون للعلوم ونقلوه من الموروث اليوناني إلى العالم الإسلامي، فالتباين في الفلسفة الإسلامية (بحسب أصحاب هذا الاتجاه) هو نتيجة لما حصل من تباين في الفلسفة اليونانية، ولهذا فإقحام الفلسفة مجددًا في الفلسفة التربوية الإسلامية سيؤدي إلى مزيد من التباين والتباعد عن الفكر الإسلامي الأصيل، وأيضًا الابتعاد عن الرؤية الإسلامية ذاتها، فهو لا يُعبّر عن حقيقة الرؤية الإسلامية الأصيلة كما هي.
 
-الاتجاه الثاني: الذي يعتبر أن لا تعارض ولا اختلاف جوهري بين الدين الإسلامي من جهة وبين الفلسفة والعرفان، فالرؤية المعرفية لكلٍ من الطرفين فيما يعني الوجود والمعرفة وعلم القيم تكاملي، فالشهيد مرتضى مطهري(رض) يشير إلى أنَّ "عرض الأبحاث الإلهية العميقة من قبل الأئمة الأطهار وعلى رأسهم الإمام علي (عليه السلام) أدى إلى صيرورة العقل الشيعي ومنذ القديم عقلاً فلسفيًا استدلاليًا" ، كذلك فإنّ المعتزلة كمنهج عقائدي لدى المذهب السني اعتمدوا المنهج العقلي الفلسفي الاستدلالي، بينما رفض آخرون من أهل السنة هذا المنهج، واكتفوا بالنص الديني كمصدر وحيد للمعرفة الدينية.
 
   وفي الوقت الذي يعترف مطهري بأنَّ هناك الكثير من الفلاسفة المسلمين غلب عليهم الاستدلال الأرسطي اليوناني، كالفارابي وابن سينا ونصير الدين الطوسي، أو أنّهم قاموا بتفسير النص الديني بناءً على المنهج الأرسطي، إلا أنّ هناك فلاسفة آخرون كصدر الدين الشيرازي، استلهم فلسفته من القرآن الكريم ونهج البلاغة ونصوص الأئمة الأطهار عليهم السلام، وأسماها الحكمة الإلهية المتعالية، والتي قدمت تفسيرًا وحلاً للكثير من القضايا والمعضلات التي طرحت في الفكر الإسلامي، والتي لم يكن هناك من توافق بين العقل والشرع عليها، كتفسير مسألة الوجود، وقضية المعاد الجسماني، وتجرد النفس البشرية، وقضية حدوث العالم وقدمه، قضية عالم البرزخ والمثال، وغيرها من المسائل والقضايا والموضوعات الفلسفية والكلامية العميقة والشائكة.
 
الاتجاه الثالث: الذي يحاول أن يقدم نفسه على نحو يتجاوز نقاط ضعف الاتجاه الأول المنغلق على نفسه، والذي يستبعد النتاج الفكري الفلسفي البشري على نحو العموم، ويقيّد نفسه بمنهجية النص والاجتهاد في فهمه، دون الأخذ بعين الاعتبار ذاك الناتج العقلي والفلسفي العميق، وكذلك يتجاوز ضعف الاتجاه الثاني الذي ينغمس في البعد الاستدلالي العقلي والفلسفي، ويأتي النص الديني في بناء الرؤية الفكرية والمعرفية في المرتبة الثانية، بل أن يستفيد من نقاط قوة كلٍ منهما، فيستفيد هذا الاتجاه من النص الديني كما يستفيد من النتاج العقلي، استنادًا على الناتج العقلي ومنهجيته الاستدلالية، واستنطاق النص الديني واستثماره في استحضار الفلسفة الإسلامية للتربية.
لكن لا بد من بيان المقصود بـ "الإسلامي"، فهل نعني كل ما يمكن استظهاره أو الاستدلال عليه من خلال النص الديني (آيات وروايات) ولا دخل للعقل فيه؟ أم أنه كل ما يمكن أن يشكّل وسيلة للمعرفة والعلم لدى الإنسان؟ أم لا هذا ولا ذاك؟
 
ربما تقودنا هذا الأسئلة لتحديد الموقف من الاتجاهات الثلاثة المتقدمة، وتوضيح ما يمكن أن نصطلح عليه بالمدرسة الفكرية التي ننطلق منها في هذا المجال. 
وكيف كان، فإنَّ مسألة تحديد ما هو إسلامي وغير إسلامي هي مسألة تأسيسية أو مبنائية في هذا الميدان، ويترتب عليها الكثير من الآثار المعرفية والسلوكية، ولها جذور في عمق المعرفة العقائدية والدينية، التي تسهم في بناء فلسفة التربية الإسلامية.
 
 

أضيف بتاريخ :2018/03/19 - آخر تحديث : 2022/11/22 - عدد قراءات المقال : 16910