الى الاعلى
  • العلم أصل كل خير، الجهل أصل كل شر " الإمام علي (ع)"

تصميم المناهج وأنواعها، والتربية الأخلاقيّة


 
تصميم المناهج  وأنواعها، والتربية الأخلاقيّة
 
 
تُعتبر عمليّة تصميم وتنظيم بُنية المنهج من لوازم عمليّة تخطيطه، والنتائج الأساسية للمنهج، وعمليّة التصميم هذه هي عمليّة شاقّة ومجهِدة، تعتمد على كفاءة مجموعة من الاختصاصيين التربويين، من أصحاب المعرفة الواسعة، والخبرة المتراكمة، في سبيل وضع منهجٍ تربوي متكاملٍ وشاملٍ، ومنظَّم، لتحقيق الغايات والأهداف التربويّة العامّة، وهي (عمليّة التصميم) تستند على جملةٍ من المعلومات والمعطيات والمرتكزات المحدَّدة في المنهاج، وعلى أُسسه الفلسفيّة والعقائديَّة، والاجتماعيَّة، والنفسيَّة،... كما أنَّها تعتمد على التغذية الراجعة من عملية التنفيذ، والتطبيق، ونتائجها. وتقوم بشكلٍ منظَّم وهادف وعلمي على جملة من المبادئ، كمراعاة "مقتضيات التغيير في معطيات الواقع"، أيّ أنّ التغُّيرات الحاصلة على مستوى السلوكيّ، والأخلاقيّ في المجتمع، التي تُشكِّل مدخلاً من مداخل عمليّة تصميم المنهج التربويّ.
 
 كما ويمكن تحديد أنواع المناهج، من حيث تصميم وتنظيم بُنيتها  وفق التالي:
1- المنهج ذا المواد المنفصلة: ويقصد به المنهج الذي يصمِّم ويوزّع المعارف والاتجاهات والسلوكات، والقيم، والخبرات المراد نقلُها إلى المتعلِّم على مواد تعليميّة محدّدة، منفصلة عن بعضها البعض، "وقد جرت العادة على أن يضع هذه المناهج متخصِّصون في فروع المعرفة فيقسِّمون ما يدرسه التلاميذ إلى مواد دراسيّة، ويحدِّدون في كل مادة منها موضوعات الدراسة لكل صفٍ من الصفوف والفترات الزمنيّة (الحصص) الضروريّة لتعليمها" .
وهذا النوع من المناهج وإن كان يُسهم بشكلٍ كبير في زيادة مستوى التخصص لدى المتعلمين، إلّا أنه يخشى، في جانب التربيّة الأخلاقيّة (مثلاً) من أنْ تُجعل القيم الأخلاقيّة التربويّة في إحدى المواد التعليميّة فقط، وتُفْقد أو تخلو المواد التعليميَّة الأخرى منها، وهو ما سيشكِّل ضعفًا على مستوى الناتج التربويّ الأخلاقي، والقيَميِّ، والسلوكيّ للمتعلمين، إلّا أنْ يقال بأنَّ تلك القيم الأخلاقيّة قد تدخل في جميع المواد المنبثِقة عن المنهاج، وبالتَّالي تسري هذه القيم على الأنشطة التعليميَّة والتربويَّة، فضلاً عن العناصر الأخرى الباقية، من العمليَّة التعليميَّة والتربويّة.
علمًا أنَّ هذا النوع من المناهج يُعتبر من المناهج التربويَّة التقليديَّة، وقد حمل في طيَّاته الكثير من المشكلات التربويَّة، والذي استمر عشرات السنين مركِّزًا على اهتمامه على محتوى المواد التعليمية، حتى أصبحت هدفًا في حد ذاتها، وقد أدَّى ذلك إلى إهمال المتربين، فلم يُكْترث بميوله ولم يُنظر إلى حاجاتِه، ولم يُهتم بمشكلاته، بل وقدم المواد الدراسيّة إلى كل المتربين دون مراعاة الفروقات فرديّة فيما بينها، استدعى الأمر ظهور منحى آخر من المناهج، ونوع جديد من أنواعها، يساعد على حل تلك المشكلات التربويّة الهامَّة.
 
2-منهج المواد المترابطة (Correlated Curriculum)
للخروج من المأزق الذي وقعت فيه المناهج التي صُمِّمت على نحو المواد التعليميَّة المنفصلة، وما أحدثته على مستوى التفْكِيك الداخلي للأهداف والغايات التربويّة، ولاعادة ربط المؤسَّسات التعليميَّة بالمجتمع المحيط، وحركته وتطوّره، ومشاكله وقضاياه، تبلورت اتجاهات تربويَّة حديثة في تصميم المناهج، إذ نشأَ على نحو ربط المواد التعليميّة بعضها بالبعض الآخر، و"بالطبع يتوقف ذلك الارتباط على العلاقات القائمة بين المواد" ، حيث أسَّس ذلك للتكامل بين الحقول المعرفيّة والتربوية المختلفة داخل المنهج، وعزَّز القيم التربويّة الأساسيَّة التي قام عليها المنهج ضمن كل عناصره وأجزائه، من أنشطة وسلوكات وممارسات تعليميَّة وتربويَّة، هذا الربط كان على نحوين :
-ترابط عرضي، غير مقصود إلّا على نحوٍ إجمالي أولي.
-وإمّا ترابط منظَّم، ومقصود، ومخطّط له بشكل مسبق.
 
إنَّ هذا النحو من المناهج، خاصة إذا كان مقصودًا ومخطّطًا له، يمكنه أنْ يضمن لنا تأسيسًّا مهمًّا للتربية الأخلاقيّة في العمليّة التربويَّة، إذا ما كانت ضمن المنهج، حيث يتم الربط والتكامل بين القيم الأخلاقيّة تلك، ويُعمل على نشرها وبثِّها في مختلف المواد والأنشطة التعليميَّة والتربويَّة، وهو ما يضمن لنا أيضًا ناتجًا تربويًّا منسجم الجوانب، أيّ أنَّ القيم التربويَّة المتوافرة في مادة من المواد، لا تنافيها التعاليم ومحتوى الأنشطة التربويّة المتوافرة في المواد الأخرى، علمًا أنَّ هذا الترابط يتجلَّى في المنهج التربويِّ ليس فقط بين المواد، بل أيضًا على مستوى كل العناصر المكوِّنة للمنهج، بما فيها المعلِّم وسلوكه وقدوته، والبيئة التعليميَّة، والأنشطة الممارسة والداعمة للمنهج، فضلاً عمًّا يحويه الكتاب من مفردات، وتلقيه الإدارة التعليميّة والتربويّة من تعاليمٍ، وممارساتٍ، وآليات تعليميَّة، وإداريَّة، مباشرة، أو غير مباشرة، داخل البيئة التعليميّة، مع العلم أنَّ هذا التنظيم للمنهج (أو التصميم للمنهج) هو من ضمن إحدى الطرق التي تقوم عليها عمليَّة تصميم المنهج، وهي الطرق المتمركِزة حول المادَّة المعرفيَّة، وهناك طرق أخرى ذُكرت في هذا المجال ، كالطرق المتمركِزة حول المتعلِّم، ومنها ما هو متمركز حول المجتمع، ومنها ما هو متمركز حول المهنة، وهذا يستلزم وجود منهج أكثر تطورًا، يقوم على منحى شامل ومتكامل، وهو ما استدعى بروز منهج تكامليٍ شاملٍ، سمِّيَ بالمنهج المتكامل (Curriculum Integrated).
 
 و "يعتبر المنهج المتكامل كخطوة وسط بين انفصال المواد الدراسيّة وإدماجها إدماجًا تامًّا، لأنه يعترف بالمواد المنفصلة ويستخدمها... وكانت الفكرة الرئيسة في طريقة الربط هي ترتيب مواد المنهج بطريقة تحقق اتصالها ببعضها، فمثلاً ترتبط الجغرافيا بالتاريخ ويرتبط التاريخ بالأدب وهكذا" ، لكن بطريقة أكثر شمولًا وتكاملاً، لا يجمع بين المواد فحسب، بل بين جميع عناصر ومفاصل وأجزاء المنهج ومكوِّناته الأساسيّة، ويضمن عمليّة تربويّة أخلاقيّة شامِلة ومتكامِلة.
 
 
تطوير المناهج والعوامل المؤثِّرة في ذلك ومكانة التربية الأخلاقيّة
 
بعد التحوّل الكبير في مجريات الحياة اليوميّة للإنسان، وما فرضته العوْلمة، من سيطرة التقنيّة على الواقع التعليميّ، وسيطرة الاقتصاد على التنميّة، وسيطرة الشبكة الإلكترونيَّة على العلاقات ، وبعد أن "أثبتت تجارب الشعوب التي تنمو أنّها لم تنمُ بالسّياسة والقوّة والسيطرة، بل بالعلم ومن يتعلمه في المؤسّسات التعليميّة. ومن أوّل ما ينبغي الاهتمام به، هو المناهج التعليميّة، وذلك للدور الذي تمارسه في نقل الخبرات، وتوفير التخصُّصات الأساسيّة التي يحتاجها البلد" ، وبالتالي فإنَّ تطوير المناهج التربويّة، بما تحمل من عناصر مكوِّنة، ومراحل تصميم وتخطيط وتقويم، ومن أنها "عمليَّة مستمرَّة ليس لها نهاية" ، لها آثار استراتيجية على الحياة البشرية، وعلى التطوّر التاريخي للبشر، خاصة إذا ما كانت تحمل قدرة التغيير على مستوى السلوكيّ، والقيميّ، والأخلاقيّ، الجذري للفرد، وبالتالي للمجتمع، و"إن مسؤولية مناهج التعليم اليوم أخطر من التركيز على المعرفة وجلُّها بالتعليم التقليدي، إن واجبها اليوم أن تتعامل مع سقف المعرفة ولكن بتوظيف اجتماعي تاريخي تنمويّ يأخذ بالحسبان حصانة المواطن وموازنة سلوكاته، وبين الحياة الماديّة والقيم الروحيّة..." ، إن عمليّة تطوير المناهج بما تملك من رغبة في تحسين الناتج العام للعمليّة التربويّة، وتعزيز نقاط القوّة، ومعالجة نقاط الضعف فيه، وبمعنى آخر، هو عمليّة متكاملة للتقدم نحو الأفضل على المستوى التربويّ والتعليميّ العام.
 
والتحوّل المأمُول والمـُرتجى على المستوى البنية التربويّة والأخلاقيّة والاجتماعيّة في أيّ بلدٍ من البلدان يعود إلى المناهج التربويّة في تلك البلدان، ولهذا السبب تُعطى المناهج هذا المستوى من الاهتمام الوطني العام، وتوكّل مهمات التخطيط، أو التنظيم، أو التقويم، أو التطوير للمناهج، إلى خيرة أبناء المجتمع ومفكِّريه، ويَؤخذ بالحسبان عند إجراء عمليّة تطوير المناهج التربويّة عدة من المتغيُّرات الثقافيَّة والاجتماعيَّة والعلميَّة والأخلاقيّة في المجتمع ، فضلاً عن التغُّيرات المعرفيَّة المتحصلِّة من الدراسات والأبحاث والتجارب والنتائج العلميّة، التي وصل إليه الجهد البشريّ، في حين أن التغُّير السلوكيّ، والأخلاقيّ لأفرادِ أيّ مجتمعٍ لا بدّ وأن يبدأ بتغيير المفاهيم المعرفيّة السائدة، والقيم الأخلاقيّة الرائجة، بعد دراسة واقع المجتمع والمتغيرات المحيطة به ، وما يهمنا هنا، هو جانب التربية الأخلاقيّة في المنهج، فتطوير المنهج، من الناحية الأخلاقيّة، لا بدّ أن يبدأ بالبحث عن الأُسس الأخلاقيّة، والقِيميَّة التي لا بد من اعتمادها أولاً، ثم يَلجأ إلى دراسة الواقع القيَميّ السائد في المجتمع ثانيًا، بعدها يقوم بعملية مقارنة تقيميَّة تقويميَّة للمنهج على ضوء ما تم تحديده من معايير قيَميَّة وأُسس منهجيّة، يصار بعدها إلى عمليّة التطوير المنشودة في الجانب القيميّ والأخلاقيّ للمنهج.
 
 إنَّ عمليّة تعزيز التربية القيميَّة والأخلاقية في المناهج التربويَّة والتعليميَّة لا بدَّ وأن يكون خيارًا استراتيجيًا ومحوريًّا على مستوى البناء التربويّ للإنسان والمجتمع، في سبيل تحقيق حياة أفضل من الواقع الاجتماعي، بكل أبعاده، الذي نعيشه اليوم.
 
 
إعداد : الشيخ د.عباس كنعان، مدير مديرية تطوير المناهج في مركز الأبحاث والدراسات التربوية 
 
 
 

المصادر :
 
- "تصميم المنهج: (curriculum design) هو خارطة توضيحيّة لما سيكون عليه المنهج من أهداف ومعارف وأنشطة وما سيخدمه من متعلمين ومجتمع محلي وما يميّز منفذيه من معلمين وإداريين وعاملين من حيث المواصفات والأدوار وما يقدم من تسهيلات على صعيد الخصائص والمكوّنات الشكليّة والتربويّة. وتصميم المنهج هذا، يشبه الخارطة التي يعدّها المهندس المعماري لتشييد بناء، بمواصفات ماديَّة وشكليَّة، ليخدم أغراضًا وحاجات إنسانية واجتماعية". راجع: عوّاد، إيفا غصيبة، و أبي فاضل، ميشال، وعيد، هيّام حداد: مقدمة في المناهج، سلسلة مقررات دور المعلمين والمعلمات، ص75. وكذلك راجع: الوكيل، حلمي أحمد، والمفتي، محمّد أمين: المناهج (المفهوم العناصر، الأُسس، التنظيمات، التطوير)، ص197 وما بعدها.
- الوكيل، حلمي أحمد، والمفتي، محمّد أمين: المناهج (المفهوم، العناصر، الأُسس، التنظيمات، التطوير)، ص201. 
- يمكن ذكر أنواع أخرى للمناهج أعتمد تحديدها بعض المختصين، ومثال على تلك الأنواع: المنهج الرسمي، والمنهج المكتوب، المنهج المعلَّم، المنهج المتعلَّم، المنهج المقوَّم، المنهج المــــــُلغى، المنهج الخفي، (راجع: عواضة، هاشم: المنهج التعليمي، م.س، ص26)، إلا أنّ هذا التحديد لأنواع المناهج هو من حيث عملية التطبيق والتنفيذ لا من حيث البناء والتصميم الذي نتناوله في مقالتنا هذه.
- عوّاد، إيفا غصيبة، وأبي فاضل، ميشال، وعيد، هيّام حداد: مقدمة في المناهج، ص84.
- إبراهيم، مجدى عزيز: موسوعة المناهج التربوية، ص222.
- م.ن، ص222.
- هناك الطرق المتمركزة حول المعرفة، ومنها: تصميم المواد المنفصلة، تصميم المجالات الأكديميةّ الواسعة، تصميم المنهج الحلزوني، تصميم المواد المترابطة، تصميم المنهج المندمج، وهناك طرق متمركزة حول المتعلِّم، منها: التصميم التكنولوجي، التصميم المرتبط بالنشاط، تصميم المشروعات، التصميم المرتكز على وحدات الخبرة، أما الطرق المتمركزة حول المجتمع، فمنها: تصميم المنهج المحوري، تصميم منهج الوحدات المختلطة، تصميم منهج النشاط، تصميم المنهج البوليتكنكي(الفنون المتعددة)، الطرق المتمركزة حول المهنة، فمنها: تحليل المهن (التخصص)، المجالات الواسعة، معالجة النظم. راجع: الزند، وليد خضر، وعبيدات، هاني حتمل: المناهج التعليمية (تصميمها، تنفيذها، تقويمها، تطويرها)، ص.ص107- 108.
- إبراهيم، مجدى عزيز: موسوعة المناهج التربوية، م.س، ص222.
-الزند، وليد خضر، وعبيدات، هاني حتمل: المناهج التعليمية (تصميمها، تنفيذها، تقويمها، تطويرها)، ص453.
- م.ن، ص45.
- م.ن،ص 452.
-م.ن، ص.ص455-456.
- إبراهيم، مجدى عزيز: موسوعة المناهج التربوية، م.ن، ص597 وما بعدها.
- إبراهيم، مجدى عزيز: موسوعة المناهج التربوية،م.ن، ص591.
 
 

أضيف بتاريخ :2017/06/07 - آخر تحديث : 2022/11/22 - عدد قراءات المقال : 38114