الى الاعلى
  • النظر إلى وجه العالم عبادة " الرسول الأعظم (ص) "

اهمية التربية الاخلاقية في الأمن الاسري ودور العناصر الاساسية المؤثرة فيها



كلمة نائب مدير عام مركز الابحاث والدراسات التربوية الدكتور يوسف أبو خليل في مؤتمر الأمن الأسري الثالث، والذي نظمته جمعية الرابطة اللبنانية الثقافية في بيروت بتاريخ 7 نيسان 2016


أجمع التربويون قديمًا وحديثًا على أنّ تخلّف أو تقدّم المجتمعات إنّما يعود إلى العمليات التربوية (بالمعنى الأعم) وهي تعني مجموع العمليات التوعوية والتي تقوم بها مختلف مؤسسات المجتمع والتي تبدأ بمؤسسة الأسرة مرورًا بالمدرسة (التربية بالمعنى الاخص اي التعليم) وصولاً الى كل المؤسسات الاجتماعية والثقافية والاعلامية والدينية والرسمية...

بالنسبة الى التربية فإن لها معنيين اثنين: 

المعنى الاول: تشتق تربية من مصطلح رَبَوَ وهو بمعنى الزيادة والنمو، وهذا المعنى يتعلّق بالجوانب الأساسية لكي ينمو الانسان على المستوى البيولوجي والفزيولوجي، كالمأكل والمشرب والملبس...

المعنى الثاني: تشتق التربية من مصطلح رَبَّبَ وهو بمعنى الرعاية والحفظ والهداية. فالله تعالى هو الربّ والمالك والراعي والحافظ لبني الانسان وربّ الاسرة او ربّة الاسرة هو مفهوم مجازي ليعبر عن الدور المهم والوظيفة الاساس لكل من الاب والام في النطاق المحدود بالاسرة. ومن خلال هذا المعنى نجد أن وظيفة التربية تتجاوز البعد البيولوجي والفزيولوجي لتنتقل بالتربية الى البعد الاخلاقي والقيمي ، او بمعنى آخر الابعاد الروحية والنفسية التي يجب العمل عليها، وهو الانتقال  الى الصحة النفسية والسلامة الروحية والتي تشكل الاخلاق والقيم الاخلاقية المدماك الحقيقي لتحقّق انسانية هذا الانسان. 

وقيل إذا أردت أن تهدم مجتمعًا فعليك بإستهداف الأسر وتغييب القيم الاخلاقية فيه، والعكس هنا صحيح. ومن هنا تنبع محورية الأسرة في كل المجتمعات القديمة والحديثة والمعاصرة ومهما اختلفت البيئة والمحيط والجغرافيا.

لا يسعنا في هذه العجالة الإحاطة بالعناوين المختلفة للتربية والتوعية الأخلاقية للأُسر، كجزء أساسي من الأمن الأسري ، ولكن لا بد لنا من الاضاءة على بعض العناوين العامة التي قد تفيدنا للتقدم نحو الأمام في هذا الأمر الحساس والدقيق.

 في عصرنا الحالي، عصر الثورة الرقمية، تكنولوجيا الاتصالات، والقرية الكونية عصر غياب كل الحدود الثقافية بين مختلف بلدان العالم وكل أصقاع الارض إلاّ ما ندر، علينا التأسيس على المستوى الفلسفي النظري المتعلق بالتأصيل الاخلاقي (التوصية  الاولى بالتأسيس لاختصاص فلسفة التربية والتخطيط التربوي واول توصية كانت للمؤتمر الذي اقامته وزارة التربية برعاية معالي الوزير هي: العمل على ان يكون لدينا فلسفة تربوية والتخطيط التربوي)، والتخطيط التربوي الاستراتيجي لتحديد مكامن الضعف والقوة والتهديدات والفرص المتاحة للاسرة الشرقية عمومًا والاسرة اللبنانية بوجه خاص. حيث تواجه الاسرة الشرقية تهديدًا كبيرًا في ظل هذا الانفلات وعدم القدرة على توجيه وهندسة المعارف والاتجاهات والقيم داخل الاسرة، ولكن كإنطباع عام يمكن القول بأن الأسرة والروابط الأسرية في الشرق عمومًا وفي لبنان خصوصًا ما زالت أمتن وأقوى في مقابل الاسرة الغربية التي تعاني بشكل كبير من التفكك والتحلل الاسري المتجّذر في المجتمعات الغربية، وهذه نقطة قوة لدينا يجب العمل على تثبيتها. (التوصية الثانية: هي كيفية الحفاظ على نقاط القوة والفرص الوجودة في عائلتنا ومجتمعنا اي عدم تحلل الاسرة وتماسكها التخطيط التربوي الاستراتيجي)

اذ لم يعد الأمن الاسري موضوعًا محدودًا أو يمكن السيطرة عليه وتأطيره ضمن اطر معروفة ومحددة، وكما يقول بعض التربويين لم تعد التربية الاسرية تربية على غرار (خيمة الفواكه البلاستيكية) حيث يمكن للمزارع فيها العمل على عزل الفواكه عن البيئة الخارجية وشروطها القاسية، ويؤمن لها مناخًا وعناية مناسبة لتنمو وتثمر بالشكل المطلوب والمناسب .

في السابق كان يمكن للأسرة التعاطي مع أبنائها على هذا المبدأ حيث أنّ العلاقة كانت محدودة ضمن نطاق جغرافي  معين، لا يتجاوز الاهل والاقارب والجيرة وزملاء الدراسة.

 أما اليوم وفي ظل هذه الطفرة على مستوى وسائل التواصل ، اختفت الحدود ولم يعد لمعنى العزل من أجل الوقاية التربوية من معنى.

وأصبح أبنائنا ومن خلال  الاستفادة من هذه الوسائل يمكنهم التعرف على كل الثقافات المختلفة والتي فيها الرث والثمين، وبتنا بحاجة الى تحول نوعي في التربية الاخلاقية (التوصية الثالثة: التأكيد على التربية القيمية لا سيما الدينية وعدم التعاطي معها كعامل من عوامل الضبط الاجتماعي) والتي تشكل الاساس في حفظ ووقاية الابناء والاسرة والمجتمع بشكل عام . والمثل الذي ينطبق هنا هو كيفية تعليمه العوم في مقابل الغرق في المستنقعات الفكرية والثقافية المتباينة ، او ينطبق المثل الصيني القديم الذي يقول:  بدل ان تعطيه سمكة كل يوم، علّمه صيد السمك.

دعونا بخلاصة نسلط الضوء على العناصر الاساسية المشكِّلة والمساهمة ببناء الاسر اخلاقيًا، والتي تلعب دورًا اساسيًا في تحصين الأمن الأسري:

1-الام: ان عماد التربية الاخلاقية للأسرة يعود بشكل كبير للام، وهي صاحب الدور الأساس كونها على مستوى الواقع "الفعلي" والبيولوجي والوظيفي هي الحاضر الاكبر في المنزل وهي عماد الأسرة والتي يشكل غيابها عن الاسرة ثلمة لا يسدها شيء. فإن كان غياب الاب يشكل نقطة ضعف للاسرة المتماسكة والمحصنة، لكن يمكن للمرأة ان تلعب كلا الدورين بتماسك الاسرة،  وهناك كثير من الدراسات والابحاث تدل على ذلك، وإنَّ اخطر ما يواجه مجتمعنا هو فقدان "القيمة" الاساس للتربية ولم تعد النظرة الى التربية الاسرية كقيمة اساسية للدور الوظيفي للأم المربية وصانعة الاجيال (التوصية ، وأضحى تواجد الاهل في المنزل لا سيما الام غير ذي قيمة ! بحيث ان المرأة غدت ببقائها في المنزل تصور على أنّّها فاشلة وعاطلة عن العمل، حيث  يشكل الدور التربوي للأم من أهم الاستثمارات للموارد البشرية، بناءً لمقولة الشخص المناسب في المكان المناسب.

ومن هنا لا أدعي ان المطلوب هو مكوث المرأة في المنزل بل ان التعلم والمعرفة وكل الميادين العلمية إنّما هي امور مساعدة في عملية التربية وإعداد المجتمعات الصالحة، وحتى العمل خارج المنزل بشكل لا يتنافى والدور التربوي للمرأة المربية إنّما هو قيمة مضافة ايضًا،  وعامل مساعد للام في مهارات التواصل والتفاعل الاجتماعي مما يرتد ايجابا على تربية الابناء، وقد يفيد المرأة في تحقيق بعض تطلعاتها،  و قد يشكل عاملاً للراحة النفسية للمرأة.

 ولكن يجب ان لا يكون عمل المراة المربية هو وسيلة للهروب من الدور الاساس الملقى على عاتقها، ومن هنا يجب تحويل تهديد عمل المرأة الى فرصة تساعد الأم المربية في تماسك الاسرة على المستوى الاخلاقي والاقتصادي والاجتماعي، مما يؤدي الى تحقيق الامن الاسري وتماسك الاسرة. (الاختصاصات التربوية واختصاص التربية الاسرية  مثلاً)

وفي هذا المجال، يستحضرني كتاب "اني لبيتي عائدة " لمؤلفته الفرنسية كريستيان كولانج، والذي يدعو المرأة الى القيام بدروها التربوي داخل المنزل كأولوية وظيفية لها، وقد ازداد مؤيدو هذا الطرح مؤخرًا في الغرب، ونذكر على سبيل المثال لا الحصر  " حركة كل نساء العالم" الاميركية والتي تطالب بعودة المرأة الى حياتها الطبيعية، ويقلن بأن على المرأة أن تكون " تحت قيادة الرجل، وفي ظل الأسرة التي هي منشأ الاستقرار والسعادة للصغار والكبار،  لكن مع الحفاظ على حرية المرأة، وليس على أساس مساواتها بالرجال." (نطرح الجندر في المناهج التربوية!!!)

2-الأب: يأتي هنا الدور الثاني والمهم للأب في التربية الاخلاقية، والذي لا يمكن الاستخفاف به، وإن غياب دوره قد يهدد الأمن الاخلاقي للأسرة، لأن دوره يتكامل مع دور المراة ولا يحل محلها، وكما جاء في القرآن الكريم " وَ اخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَ قُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّياني‏ صَغيراً"  ومن خلال هذه الآية يتبيّن أن الدور التربوي لم يناط فقط بالأم بل بكلا الوالدين، حيث قال ربياني وجمع بين الأب والأم في التربية.

3-وظيفة الدولة والمؤسسات الرسمية: فليس من وظيفة الدولة فقط التعليم لتحقق للمتعلمين مكانًا في سوق العمل، بل من وظيفتها التربية بالمعنى الاعم والتي لها علاقة بالتنشئة الاجتماعية واكتساب الاخلاق الحميدة، واعداد المواطن الصالح، ومن هنا جاءت تسمية وزارة التربية والتعليم لتشير الى الدور والاهمية للوزارة على المستوى التعليمي التعلّمي الخاص، والى المستوى التربوي العام الذي يتجاوز حدود العمليات التعلّمية والتعليمية.

4- وظيفة مؤسسات المجتمع السياسية والثقافية والتربوية والاجتماعية والدينية: هي مؤسسات كثر انتشارها في مجتمعنا المعاصر، وهي محل التقاء لمختلف فئات الشعب ، والذين يتوافقون على اهداف مشتركة، ودائمًا ما تكون اهدافهم وقيمهم تصب في اطار العمل الثقافي البنّاء، وتعد فرصًا لتكوين العلاقات الاجتماعية، وتزداد أهمية هذه المؤسسات لزيادة الفرص الكافية والمناسبة لممارسة الانشطة المختلفة، وأهم ما فيها العمل التطوعي الذي يؤدي الى خدمة الانسان كقيمة اخلاقية اجتماعية، والذي يشكل جزءًا اساسيًا من التربية الاخلاقية المطلوبة، ويلعب دورً رئيسًا ومساعدًا في الامن الاجتماعي، خاصة عند وجود ضعف من قبل الاسرة والمؤسسات الرسمية.

5-الاعلام:  الاعلام هو جزء من المؤسسات الاجتماعية، ولكن اردت تخصيصه، حيث أنه يلعب دورًا أساسيًا في تحصين الأسر تربويًا واخلاقيا، فلا يوجد إعلام بدون تربية وقيم، وان صناعة الميول والاتجاهات والقيم تنتج من خلال المعلومات.

  والحمد لله رب العالمين


أضيف بتاريخ :2016/04/13 - عدد قراءات المقال : 20660

الكلمات المفتاحية : التربية التعليم الأسرة الأم